أغاني الأطفال الفلسطينية

شرد الشعب الفلسطيني من وطنه منذ ما يزيد عن نصف قرن، وتشتت تراثه بسبب هذا التشرد، وأخذ بعض هذا التراث و لا سيما الشعبي منه يضيع بموت من عاشوا في فلسطين ، ذلك لأن المسجل منه في مخطوطات أو المدون منه في كتب كان قليلا .
ولشعوره بالمسؤولية الحضارية والوطنية تجاه بلده وشعبه ،انطلق الباحث العربي الفلسطيني نمر حجاب من بداية ستينات القرن العشرين لمسح بلده فلكلوريا ، والتنبيه لقضيه خطيرة تتمثل في سرقة هذا المورورث من قبل إسرائيل كلما وجدت فرصة لذلك.

وبما أن الطفل هو(خميرة المستقبل) كما يصفه الباحث ، وأن الطفل الفلسطيني حرمته الظروف من ألعابه وانتزعنه من طفولته ،أفرد له (حجاب)مساحة واسعة من الدراسات الشعبية الميدانية التي صنفها ، وقد تمثل ذلك بالاغنيات التي تقال للطفل منذ تكونه في رحم أمه وانتهاء بما يغنيه هو في ألعابه مع أترابه.

استقى الباحث مواده الوثائقية من أفواه الناس الذين عايشوها في الوطن قبل الاغتصاب ، وقد بذل جهدا ملحوظا في الملاحقة والمتابعة والتصنيف والتوصيف حتى تمكن من تغطية الوطن الفلسطيني كله _الشمال،الوسط نالجنوب_.
وقد لاحظ الباحث ((الاندماج الحضاري مع الشعوب العربية المحيطة بفلسطين وغيرها من شعوب العالم)) ذلك أن فلسطين كانت ومازالت ((محج جميع الناس من العالم))

ومن اللافت بحق أن الباحث سجل الأغنية كما هي بمفرداتها ولفظها ومناسبتها ، ثم عند الى الموسيقا ليجعل لحن الاغنية التي تلقاها من الافواه مباشرة في نوته موسيقية يمكن تأديتها على أصولها في أي وقت راهن أو آت . والباحث يرى أن الأغنية الشعبية ترتبط بحياة الانسان ارتباطا وثيقا منذ ولادته وحتى وفاته . وقد حظيت مرحلة الطفولة كغيرها من أدوار حياته بلون من الغناء الشعبي ، من أمه أو إحدى جدتيه أو قريباته. وقد تميز هذا الغناء الطفلي بسمات خاصة . مقطوعاتها صغيرة . همهمات هادئة نشأت من مجرد الترنم اللحني أو الدندنه وخاصة أغاني المهد (تنويم الأطفال) ، وهي تسير وفق نغمة رتيبة هادئة مكررة حتى تبعث الهدوء في نفس الطفل فينام . كما أنها تمتاز في أدائها بالرقة وهي تؤدى بصوت خافت هادئ أقرب الى النبرة الحزينة.

أما أغاني ترقيص الأطفال وهدهدتهم فتمتاز بتوافق إيقاع نغماتها وفق الحركة الرتيبة الهادئة التي تحركها الأم أو الجدة للطفل ، أو بعض أجزائه كالأصابع أو اليد أو الكتفين.

وقد لاحظ الباحث أن هذه الأغاني تتشابه في أقطار الوطن العربي بخاصة و لدى عوب العالم بعامة. فمهما كان الايقاع او اللحن فهو موجه للطفل نفسه من التمني أن ينام الطفل نوماً هادئاً “تحرسه الملائكة” ، أو بعث الأمل له ب “الهدية” إذا هو انصاع لهذه النغمات ونام ، أو أنها تحكي له بعض الحكايات بشكل غنائي هادئ عله ينام .

وتكون هذه الأغاني أثناء تنويم الطفل أو أثناء حمامه ، فإذا ما استحم الطفل ورضع فإنه يسترخي وينام وهذا من دلائل العافية. والطفل الذي يبكي ولا ينام فلا بد أنه كما يقولون في وجدانهم الشعبي ” الطفل اللي ما بنام وبظلّ يبكي يا بكون جوعان أو بكون موجوع أو موسخ على حاله.”

والنوم حسب عرفهم أفضل للطفل من الأكل والشرب ويعبرون عن ذلك بقولهم :”الراحة غلبت السّراحة والنوم دلايل العافية”
وتحرص الأم على عدم إحداث ما يقلق منام طفلها (حتى لا ينقز) وهي تهدهده قائلة {نوم العوافي , نوم الهنا, اسم الله حولك وحواليك}
وعندما تنقله وهو نائم من مكان الى آخر تقول تقول {اسم الله عليك. من إيد لإيد يكبر ويزيد } ثم تضع عليه كسرة خبز حتىتتلهى بها الشياطين عنه وهذا من معتقداتهم الشعبية.

والعامل الهام بعد الهدوء في المكان الذي ينام فيه الطفل هو التهاليل أو الهدهدة التي تغنيه أمه له لينام . وهذه التهاليل تغنيها في [ نغمات موسيقية] تتناسب وحركات إيقاع السرير “المهد” أو حركات يديها ورجليها إن نام في حضنها .

إن الأم في تهاليلها لطفلها ، كما يرى الباحث إنما تبلور الكلمات للتوجه إليه بمختلف الأحاسيس والانفعالات. إن نغمات الأغنية تتوافق مع الكلمات والنبرات الصوتية، حيث يقوم المعنى للطفل وللأم بتطويع نطقها بأمانه مطلقة لمتطلبات النغم والكلمات معا ، بلون هادئ رقيق محبب حالم، إنها بذلك تتأمل دخائل طفلها وتهدهد أحلامه .

تبلغ الأم أوج خصب غنائها الفردي ، من التهاليل وسواها ، لأنها تغني من أعماقها ، فهي تأتمن الوجود عليه ، وتشعر برغبة جارفة في البوح بعواطفها كافة حتى لتكاد تجزم أن طفلها يبادلها الشعور ذاته ، فتندفع بتلقائية وعفوية للتعبير عن فيض جارف دافق من انفعالات تعطي أنغاما تصدر عن نبع غزير يفيض حنانا وعبر كلمات بسيطة بل ساذجة أحيانا. إنها نكهة “الأعمال الشعبية” كما يسميها الباحث.

أثناء التهاليل تذكر الأم لطفلها أسماء حيوانات البيئة وطيورها ، الحمام منها بخاصة ، كما تذكر له أسماء العديد من المكسرات (التسالي) أمثال البندق والفستق التي تعده بأنه سيأكلها عندما تظهر أسنانه ويصبح قادرا على أكلها:

صباح الخير يالوز بدي لحبيبي جوز

يكون غني وفرحان ويملّي الخوابي جوز

صباح الخير بزياده يقلع عين الحسّادفه

والأم بتهاليلها لطفلها بغية النوم تنأى بمباهجها الحياتية ، وتسهر معه الليالي الطويلة ،إنما توقظ فيه الحس الباطني (لتجعل قلبه البرئ يذعن لفيض الآلام المعنوية التي غمرت أمه فيرحمها وينام)
إنها بتهاليلها هذه تكرر _كما يرى الباحث_ شكواها وتبرمها. إنها تغير النغمة ونسبها ، تغني بمقامات مقامية يغلب عليها عدم الاستقرار النهجي فيتموج الصوت من تحولات مقامية أقل ما يقال عنها أنهاقد تكون خادعة للطفل فينام.

هَلّلتْ مكهْ وقالتْ مرحبا بالزائرين
مرحبا بالشيخ فيكمْ ولطفالف الراضعينْ
هَلّلتْ مكهْ وقالتْ مرحبا بالزائرات
مرحبا بالشيخهْ فيكن والبنات الراضعات

***

يا مرحباً ترحبْ لفو وخيل العرب تلعبْ لو
يا مرحبتين وترجيحَه يابو قامفه مليحَهْ
يا مرحبتين يا مرحبْ يا ميتين حصان أشهبْ
للحلو تَمفنّو يرْكَبْ

***
 
وغالبا ما تبدأ تهاليلها بذكر النبي (ص) عند قيامها بتنويم طفلها أمثال:

ذكر النبي ما أحسنو ذكرالنبي ما أحلاهْ
وذكرف النبي نَسو قلْب العليل وابْراهْ
يا حْسيرتي غلّقفتْ لفبواب من حولي
وحلفوا على المصاحفْ ما يقربوا صوبي
لبسوا ثياب السفر يومين والتالي
وثاري غيبتفهمْ قد هدّت احْوالي
لبسوا ثياب السفر يومين وما طلّوا
وثاري غيبتهم طول الدهر كلّوا

هذا النص كغيره يمتلئ بعاطفه حزينة من ألم السهر ، فالمرأة فيه تتذكر فراقها لأحبتها وكل شيء يوجعها. إن الأم هنا تخلط بين ترانيم الأطفال ومراثي الحزن المفجعة ويعتقد الباحث أن ذلك راجع إلى أن الترانيم ومراثي الحزن تشترك في اللحن ومدّ الكلمات.
وقد تتعب الأم وطفلها لا ينام ، تصمت فترة وهي فترة خمود _ حسب الباحث_ كالسكوت الذي يسبق العاصفة
“سكون ذو عمق مخيف فهو يحوي بذور الانفجار القادم”.
فالأم عندما تقول : ‘يا عين حسن نامي’ مثلاً ، إنها بتكرار هذه النغمة “يا” عند التعبير عن الملكية ‘يا عيني’ (ي) وخاصة النغمة الزخرفية الموضوعة على نصف مقام أعلى بعض النوتات وهي ذات تأثير مؤلم يوحي بنحيب في الصوت ، وتسير بقية الجملة بين علامات تحويل أساسية وثانوية ، وتتميز هذه الأخيرة بألوانها المعتمة الحزينة شيئا ما.

إن هذه النغمات الزخرفية ، كما يراها الباحث ، لها روح مؤثرة تعبر من خلالها الأم عن مرارة زائدة ، واجدة لون ونغمة غنائها بصوت حنون أقرب إلى الرثاء، يعبر بصدق عن حالة نفسية ، حالة إنسان تعيس ، ولكنه أنوف ذو نفسية راضية منوعة أبية، فيحس به الكفل فيشعر بالراحة ، فيغفو عليه. لقد غاصت نغمتها في أعماق الطفل جنبا إلى جنب مع نزوات الروح الخفيفة المتقلبة ، وذلك بأسمى النغمات وأعذبها وأصدقها.

وهنا يجد الباحث ما يصف ب ” التطابق النفسي العجيب ” بين عبقرية الأم ونشوة الطفل حين يغفو ويرى أن هدهدة الطفل في هدوئها وحنانها ، في نغمها الرفيع، تحيط الطفل، وكل من يسمعه بجو من الرقة والحنان والبراءة.

منقول من الانترنت

رأي واحد على “أغاني الأطفال الفلسطينية

  1. مشكورين على هذا الموضوع الرائع.
    ولكن كنت اتمنى ان اجد على صفحات النت موقع واحد يعتني بذات الموضوع ولن بالصوت واللحن الصحيح.
    لأني فعلا أحتاج ان ارنم لأطفالي بعض من كنوز هذا التراث العظيم.
    ولكم جزيل الشكر

اترك رداً على نضال إلغاء الرد