بوتشين

جياكوم بوتشين مؤلف موسيقى إيطالي وواحد من أعظم المناصرين للواقعية في عروض الأوبرا والذي استطاع أن يضع تاريخ الأوبرا الايطالية في صورة متكاملة عملياً،
ولد بوتشين عام 1858 في لوكابتوسكاني في ايطاليا وتوفى في بيلجوين عام 1924 وهو منحدر من عائلة أمدت كاتدرائية سان مارتين في لوكا بعدد من الموسيقيين على مدار قرنين وقد كان اكبر ابناء أسرة كبيرة وكانت امه تعقد عليه آمالاً كبيرة فسلمته إلى أخيها فورتينيتو ماجي ليعلمه الموسيقى ولما لم تحدث نتائج جيدة أرسلت ولدها إلى مدرس آخر هو كارلو انجيلوني ويعد فترة احست ان ابنها سيتحسن اكثر في ميلان فأرسلته للدراسة في الكونسرفتوار هناك وكان مدرسه الأول هو اميلكير بونتشيللي الذي ربما كان صاحب التأثير الاكبر على مستقبل بوتشين الأوبرالي. وقد اثر عرض اوبرا «عايدة» لجوسيب فيري عليه فبعد ان شاهده في بيزا عام 1876 اقتنع ان مستقبله الحقيقي هو الاوبرا. في خريف عام 1880 عندما ذهب للدراسة في الكونسرفتوار بميلان على يدي عازف الفيولينه الشهير واحد اهم مؤلفي موسيقى الحجرة انتونيو باتزين وبونتشيللي مؤلف أوبرا (الجيو كاندا)، بدأ مشواره الحقيقي مع الاوبرا فبعد ان حصل على الدبلوما عام 1883 مقدما سيمفونية (كابريتشيو) كمشروع للتخرج وكانت عملا آليا، جذب انتباه دوائر ذوي النفوذ الموسيقي في ميلان، مما شجعه في نفس العام على دخول مسابقة للاوبرات ذات الفصل الواحد بأوبرا (لا فيللي) ولكن المحكمين لم يروا انها تستحق الاهتمام ولكن مجموعة من الاصدقاء بقيادة المؤلف الموسيقي الليبرالي اريجو بويتو دعموا إنتاج الاوبرا وتقديمها وقد حظي حفل الافتتاح بنجاح ضخم على مسرح فيرم الايطالي بميلان في 31 مايو عام 1884. كانت اوبرا (لا فيللي) عظيمة لقوة الدراما بها ولحنها الاوبرالي الذي اثر على سيطرة اعمال ريتشارد فاجنر والدور المهم الذي لعبته الاوركسترا، وقد قام الناشر الموسيقي جوليو ريكاردو سريعا باحتكار حقوق نشرها مع شرط ان تمتد إلى فصلين، كما انه حول بوتشين ليكتب اوبرا جديدة لعرضها على مسرح (لاسكالا) واعطاه راتبا شهرياً، وبذلك بدأت حياة بوتشين المؤسسية مع جوليو ريكاردو والذي اصبح فيما بعد الناصح والصديق لبوتشين. بعد وفاة والدته، ارتبط جياكو بوتشين بامرأة متزوجة (الفيرا جيميوباني)، حيث وجد في عاطفتها الشجاعة لتحدي الفضيحة الضخمة التي نشأت بسبب اتحادهما غير الشرعي، عاشا في البداية في موتزا قريبا من ميلان حيث انجبا ولدا «انتونيو» وفي عام 1890 انتقلا لميلان ثم إلى تورديل لاجو على بحيرة ماسانشكولي في توسكاني عام 1891، واصبح هذا المنزل ملجأ بوتشين في الحياة حيث استقر هناك حتى قبل وفاته بثلاثة اعوام حيث انتقل إلى فياريجيو، لكن الحياة مع الفيرا اثبتت صعوبة شديدة بدلا من ان تكون الحياة معها سهلة مريحة، فقد كانت شديدة الغيرة ولم تكن الصحبة المثالية، لكنهما تزوجا عام 1904 بعد وفاة زوج إلفيرا. الاوبرا الثانية لبوتشين (إدجار) اعتمدت على الدراما الشعرية التي كتبها الاديب الفرنسي الفريد دي موسيه وعرضت على مسرح لاسكالا عام 1889 وكانت فاشلة ورغم ذلك استمر ريكاردو في ايمانه بموهبة بوتشين وارسله إلى بايريوث في ألمانيا ليسمع ألحان فاجنر. وبعد ان عاد بوتشين كان معه خطة (مانون ليسكوت) الشبيهة بالمانون الخاصة بالمؤلف الموسيقي جوليس ما سينيت التي قامت بمناسبة الاحتفال برواية القرن التي كتبها آبر بريفوست، وبهذه الاوبرا بدأ بوتشين يختار مواضيع اوبراته بعناية ويمضي وقتا طويلا في الاعداد لها، ونفسية البطولة في «مانون ليكوت» تسيطر على الطبيعة الدرامية لأوبرات بوتشين فهو يتعاطف مع جمهوره ويكتب ليحركهم ويؤكد على نجاحه، ونجاح «مانمون ليسكوت» يعود إلى انها حية دراميا تشير إلى النقاء الاوبرالي الذي حققه في اوبراته الناضجة (لابوهيم، توسكا، مدام بترفلاي، وفتاة الغرب الذهبي عام 1910). وهذه الاوبرات الاربعة الناضجة تحكي ايضا قصص حب واحدة وفيها تركيز كامل على البطلة المرأة وتنتهي نهاية مأساوية وكلها تتحدث بنفس اللغة الموسيقية النقية والشفافة للاوركسترا الذي يخلق مسرحية بارعة تدور فكرتها الرئيسية على الذكريات الانسانية، الموسيقى دائما ما تنبثق من الكلمات، وثيقة ومرتبطة بمعناها وللصورة التي تستحضرها في لابوهيم وتوسكا وباترفلاي فقد شارك بحماس شديد في كتابتها مع الكاتبين جوسيب جياكوسا ولويجي إليشيا، العرض الاول (لمدام بترفلاي) في 17 فبراير 1904 كان فاشلا ربما لان الجمهور وجد العمل مشابها لأوبراته التي سبق تقديمها، فقرر بوتشين التوقف قليلا وسافر إلى القاهرة عام 1908 حيث امضى الصيف هناك وعندما عاد إلى (تور دي لاجو) كرس نفسه (لفاسيولا)، لكن زوجته الفيرا اصبحت غيورا بشكل غير متوقع خاصة من الخادمة القروية الصغيرة (دوريا مانفريدي) والتي تم تأجيرها منذ سنين عديدة بواسطة بوتشين فقد قامت بطردها مهددة بقتلها، فقامت الخادمة بتناول السم وماتت، لكن والداها ذهبا بجثتها لأحد الاطباء لفحصها فأعلن انها عذراء، فقام الوالدان برفع دعوة ضد اليفيرا لاضطهاد الفتاة والتشهير بسمعتها مثيرة واحدة من اشهر الفضائح في ذلك الوقت، وقد وجدت المحكمة اليفيرا مذنبة ولكن اثناء مرافعات المحامين وقبل ان ينطق القاضي بالحكم، دفع بوتشين لأهل الفتاة تعويضا عن خسارتها، فقاما بسحب دعواهما، بعد ذلك استطاع بوتشين واليفيرا ان يضعا نظاما للتعايش في سلام لكن بوتشين طالب بالحرية المطلقة.

تسببت هذه الواقعة في تأخير خروج أوبرا (لافانسيولا ديل ويست) حتى ديسمبر 1910 حيث كان العرض الاول بالمتروبوليتان في مدينة نيويورك بقيادة ارتورو توسكاني وكانت الاوبرا نصرا عظيما لبوتشين الذي وصل معها لقمة نضجه الفني، بعدها اعترف بوتشين ان كتابة الاوبرا عمل صعب رغم انه كان الممثل المثالي للأوبرا في القرن التاسع عشر، فقد شعر ان القرن العشرين لا يستحق ان يقدم له شيئا فهو مليئ بالمشاكل التي لا تخصه، فلم يكن قادرا على فهم الاحداث المعاصرة مثل الحرب العالمية الاولى، ففي عام 1917 في مونت كارلو عرضت أوبرا (لاروندين) لأول مرة ونسيها الجميع بسرعة. مع ذلك كان بوتشين دائم الاهتمام بالمؤلفات الاوبرالية المعاصرة فقد درس اعمال كلود ديبوس وريتشارد شتراوس وارنولد اسكونبرج وايجور استرافينسكي ومن هذه الدراسة ظهرت اوبراته ذات الفصل الواحد مثل ميلودراما (الساعة) و(انجيليكا الحساسة) والاوبرا الكوميدية (جياني اسكتشين) وقد قامت اوبرته الاخيرة على اسطورة توراندوت كما ذكر في مسرحية توراندوت التي قدمت بواسطة كاتب الدراما الايطالي في القرن الثامن عشر كارلو جوتزي وهي الابورا الايطالية الوحيدة ذات الطابع الانطباعي، لكن بوتشين لم يكمل توراندوت فهو لم يتمكن من كتابة الدويتو الكبير الذي يدور حول انتصار الحب بين «توراندوه وكالاف»، فقد كان بوتشين يعاني من سرطان في الحلق وذهب لبروكسل لاجراء عملية لكنه توفى بعد ايام قليلة بدون ان يكمل (توراندوه). وقد تم عرض (توراندو) بعد وفاة بوتشين في 25 ابريل عام 1926 على مسرح لاسكالا وانتجها ارتورو توسكاني بالشكل الذي كان يريده بوتشين قبل وفاته حيث اكمل المشهدين المتبقيين فرانكو الفانو وفقا للاسكتشات التي تركها بوتشين. وقد اقيمت جنازة مهيبة لبوتشين في لاسكالا بميلان اخذ جثمانه لتورديل لاجو التي اصبحت مدفن بوتشين ومن بعده زوجته وابنه وتحول منزل بوتشين إلى متحف وارشيف خاص عنه. إن غالبية اوبرات بوتشين تصو رؤية محددة في عبارة بأوبرا (تابارو) حيث يقال «من عاش للحب يموت من اجله» وهذه الرؤية لعبت دورا في اقدار البطلات النساء اللائي يكرسن اجسادهن وارواحهن لعشاقهن والمعذبات بالشعور بالذنب والمعاقبات بمحنة الألم حتى يصلن للدمار في النهاية. وفي معالجته لهذا الموضوع يجمع بوتشين بين العاطفة والشفقة على بطلاته بخط قوي للسادية ومن ثم العاطفة القوية تنكشف ولكن هذا قيد المجال بالنسبة لشكل اوبرات بوتشين، اما الملمح الرئيس لاسلوب الدراما الموسيقية الخاصة ببوتشين هو قدرته على التعريف بنفسه عن طريق موضوعه وكل اوبرا لها موضوعها المميز، وبغريزة لا تخيب لبناء درامى متوازن عرف بوتشين ان الاوبرا ليست مجرد فعل وحركة وصراع بل يجب ان تحتوي ايضا على لحظات من السكينة والتأمل والغنائية ولهذه اللحظات اخترع اسلوباً جديداً من الالحان العاطفية المتألقة مثل آريات (الوداع) و(الموت) والتي تعكس الاصرار الجنوني على التخلص من الالم الذي عاناه في حياته الخاصة. ان ما قدمه بوتشين للبنية الدرامية يعبر عنه هو بنفسه حيث يقول: «الاساس في الاوبرا هو الموضوع وطريقة معالجته»، فتحويل القصة لدراما حركية على المسرح استرعى انتباهه في المقام الاول وكرس نفسه لهذا الجزء في عمله كما كرس نفسه تماما للتأليف الموسيقي نفسه، والفعل في اوبراته ليس معقدا وواضحا، لدرجة ان المشاهد حتى لو لم يفهم الكلمات سيفهم ما الذي يحدث فوق خشبة المسرح. إن مفهوم بوتشين للحن المنتظم القوي متجر في تقاليد الاوبرا الايطالية في القرن التاسع عشر، ولكن الاسلوب الهارموني والاوركسترالي يدلل على انه كان واعيا للتطورات المعاصرة، خاصة الاعمال الانطباعية لاسترافينسكي، بالرغم من انه اعطى للاوركسترا دورا اكثر فعالية، كما غير التقاليد الخاصة بالاسلوب الصوتي في الاوبرات الايطالية حيث كان يتحمل المعنيون عبء الموسيقى. ومن هنا ندرك ان بوتشين من اعظم الموسيقيين في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين وعلى يديه تطور فن الاوبرا والتأليف الموسيقي كثيرا.

رأيك يهمنا