عندما يذكر المقام العراقي و براعة إنشاده في حقبتنا الراهنة التي نعيشها فاسم محمد القبانجي يأتي في طليعة الأسماء و على كل لسان و يتصوره كل ذهن و يذكره كل ذواق لفن السماع إن محمد القبانجي هو المجدد الأول لغناء المقام العراقي و رائد الموسيقى العراقية في دورها الرابع للمدرسة الموسيقية الحديثة فإذا غنى في مجلس غناء فلا يرتفع أمامه صوت مغن
و إذا تحدث عن فنون الغناء فجميع حاضريه يصغون إليه و يستفيدون من سعة إطلاعه و غزارة معرفته الموسيقية ، و بالإضافة إلى جمال صوته و عذوبته محدث لبق و نديم المجالس و شاعر رقيق معبر عن سائر الأحاسيس الإنسانية التي يصادفها الإنسان في حياته العامة و الخاصة .
ولد هذا الفنان الكبير عام 1904 في بغداد في محلة سوق الغزل و كان والده عبد الرزاق بن عبد الفتاح القبانجي من محبي الموسيقى و الغناء و من العارفين في فنون المقام العراقي و من خلال سماع محمد لغناء والده و شعوره بجمال صوته تيقظت في نفسه مواطن الموهبة الموسيقية و بدأ يحاول الاستزادة من هذه المعرفة الفنية .
تلقى علم المقام على يد أبرع أساتذة المقام في العراق أمثال قدوري العيشة المتوفى عام 1348 هجري و محمود الخياط المتوفى عام 1344 هجري و السيد ولي بن حسين و تتبع طرق قدماء المغنين و أساليبهم و استطاع أن يتقن لهجاتهم الغنائية حتى أصبح القبانجي بالإضافة إلى مقدرته الصوتية عالما علما في فنون المقام العراقي و في فترة من الزمن المعاصر حين كاد المقام العراقي أن ينسى في ميدانه الفني تفرد محمد القبانجي في حمل رسالة دعمه و النهوض به إلى مستواه اللائق كتراث موسيقي عربي أصيل فأخذ في أسباب الاختراع و الابتداع و التحسين و تهذيب بعض المقامات ، وأنشأ لها طريقة جديدة انفرد بها و حلق في أجوائها و أخذ يعمل باجتهاد و دقة سالكا شتى الطرق ليوصل المقام العراقي إلى الدرجة التي تتلاءم معها أذواق الجماهير العراقية على اختلاف مدنهم و أقاليمهم و اثبت لهم روعة المقام و أصالة مصدره
و حينما دعيت العراق للاشتراك في المؤتمر الموسيقي المنعقد في القاهرة عام 1932 كان اختيارها للقبانجي رئيسا للوفد دلالة على ثقة الدولة بهذا الفنان الكبير
لقد مثل القبانجي بلاده في المؤتمر الموسيقي المذكور ونال الدرجة الأولى على سائر الوفود العربية إن هذه البادرة قد زادته تقديرا واحتراما من الحكومية والشعبية في العراق والبلاد العربية وأذكر للقبانجي مواقفه النبيلة المشرفة في المؤتمر الموسيقي . ففي أحد الاحتفالات حينما حضر ملك مصر فؤاد الأول وكانت الأوامر إلى الجماهير المستمعة بعدم التصفيق والاستحسان لأي وفد من الوفود العربية أو الشرقية أو الغربية ولكن القبانجي عندما غنى وحلق في سماء الإبداع خرج الناس عن سكونهم وصمتهم وعما تلقوه من أوامر بالصمت وانهالت الأكف بالتصفيق إعجابا وتقديرا وعلى أثر هذا الإعجاب استدعي القبانجي إلى القصر الملكي بواسطة المرافق الخاص للملك وهناك قدم له مبلغا كبيرا من المال باسم الملك ولكن عفة القبانجي رفضت قبوله رغم كونه كان مغريا ولكن الحاشية الملكية أفهموه أن هبة الملوك لا ترد فقبلها عندئذ معلقا أنا لست بحاجة إلى هذا المال وأن الله عز وج ل قد أغناني عما سواه ولكني سأقبل هذه الهبة من أجل البركة لا غير وفي ذات يوم من أيام المؤتمر في القاهرة بينما كان القبانجي يتمرن مع فرقته الموسيقية لتأدية بعض المقامات في حفلات المؤتمر وإذ بمحمد القبانجي يأخذه الحال وكأنه يخرج عن النغمات المألوفة والمعروفة فوقف عازف القانون عن العزف مشدوها وقال لمحمد بماذا تغنيت يا أستاذ فأعادها القبانجي وتمعن بها عازف القانون ودونها في الحال وإذ هي ولادة نغمة جديدة يخيل إلى السامع وكأنها مألوفة على الأسماع أضيفت هذه النغمة إلى نغمات المقامات العراقية ليزداد بها المقام جمالا وتجديدا .
وفي المؤتمر الموسيقي الثاني الذي عقد في بغداد عام 1964 كان القبانجي بهمته العالية وعلمه وإطلاعه الواسعين قي الميدان الموسيقي فقد حاضر في موضوع المقام العراقي والموسيقى العربية وفي الحفل الساهر الذي أقامته الحكومة العراقية تكريما لضيوفها أعضاء المؤتمر كان القبانجي يغني بصنعته الفائقة وعزمه المتين مقاماته الجميلة الحلوة وعلى الرغم من مقدرة القبانجي الموسيقية والصوتية فإنه لم يتخذ من غنائه صنعة لتطريب الناس لأنه اتخذ لنفسه صنعة واحدة هي التجارة ويعتبر القبانجي من أثرياء التجار العراقيين إن محمد القبانجي من أساتذة الدور الرابع والمدرسة الموسيقية الحديثة في المقام العراقي .