محمد عبد المطلب – سلطان الطرب الحقيقي

محمد عبد المطلب 1907-1980

السبت فات … وكل ايام الاسبوع مرت وسنوات عديدة منذ رحيلك أيها الرائع الجميل ، ولم يأتنا من يعوضنا عن كمية الطرب المركز الذي كنت تنشره أثناء حياتك الغنية الطويلة المليئة بالفن والجمال.
و منذ العام الذي رحلت فيه عنا وعن الفن وحتى اليوم لم يظهر أحد استطاع أن يعوض ولو جزء بسيط من مكانتك المرموقة التي احتللتها بجهدك وجمالك وفنك.
وجه الطرب الحقيقي…


يا صاحب الطربوش المائل المتمركز على رأس من طرب … رأس من ذهب.
أيها الراقي بفنك وأخلاقك تركتنا وتركت فراغا ليس في الإمكان ملئه.
يا شيخ مشايخ الطرب الشعبي الراقي …. يا من سماك عميد الأدب العربي طه حسين بالقاعدة المصرية للأغنية الشعبية ……
ولد محمد عبد المطلب في 13- 8 –  1907 في قرية صغيرة اسمها شبراخيت تقع  جنوب الإسكندرية مدينة الإبداع الحقيقي ومسقط رأس الكبار كبار الكبار من المبدعين .
( بعض المصادر تذكر أنه ولد في 13-8-1910) والحقيقة لا أدري كيف تختلف الروايات في عام الميلاد وتتوافق في تحديد اليوم.
ولد محمد عبد المطلب في بيئة فقيرة جدا معدمة، وكمثله من أولاد القرية أدخل الكتاب ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن وفي الكتاب اكتشف شيخه صوته القوي الراسخ فتولاه وثابر على تدريبه وتعليمه مخارج الحروف وذلك ليتمكن من قراءة القرآن وبذلك يطرب الشيخ نفسه.
وبالرغم من انه لم يكمل تعليمه في الكتاب نظرا لفقره الشديد إلا أنه يبدو أنه تعلم ما يكفيه ليشق طريقه الطويل الشائك الصعب.
سرعان ما اكتشف محمد حبه الفطري للموسيقا والغناء واكتشف صوته الجميل القادر ذو الطبيعة المتميزة.
فبدأ يستمع عبر غرامفون مقهى القرية البسيط الى كل ما يصل للمقهى من اسطوانات مشاهير مطربي تلك الفترة الغنية فترة العشرينيات من القرن العشرين امثال عبد اللطيف البنا وعبد الحي حلمي وصالح عبد الحي و غيرهم.
هذا النوع من الغناء المتقن فتن الشاب المتعطش للفن فبدأ يستمع ويحفظ ويغني ما يسمعه و سرعان ما اكتشف الناس في القرية جمال ودفء في هذا الصوت العبقري المميز وقدرته المميزة على إطراب كل من يستمع إليه.
ولعل ترداده لأغنية “قاضي الغرام” للمطرب عبد اللطيف البنا أمام اصدقائه وابناء قريته جعلهم يشجعونه على الارتحال الى القاهرة …. والحقيقة انني بحثت كثيرا عن عن فترة نشأته وعن كيفية اتخاذه لقراره بالارتحال الى القاهرة ولكنني لم أجد ما يشفي غليلي ويرويني من سيرة هذا الفنان الجميل .

أول ما بدأ مشواره الفني بدأ ككورس مع الموسيقار داوود حسني حيث كان لاحتكاكه معه أكبر الأثر في تدريب عبد المطلب وتعلمه أصول الغناء والمقامات الشرقية وأصول الغناء  وخاصة وان داوود كان قامة فنية عالية ذات علم غزير.
والحقيقة أن داوود حسني اقتنع بصوت وإمكانيات عبد المطلب فتولاه بعناية خاصة وعلمه وساهم في ارتقاء علم عبد المطلب.

انتقل طلب الى القاهرة البلد الحلم لكل من يبحث عن فرصته في بلد الفرص وذلك في شهر اكتوبر من عام   1925 في اليوم الذي صدر فيه أول عدد من مجلة روز اليوسف ، وكأمثاله من أبناء الريف المصري أدهشته القاهرة بكبرها وزحمتها لدرجة أنه تاه في حواريها وتعرض لحادث أثناء ركوبه الترام لأول مرة فشج رأسه وكاد ان يقرر العودة ولكن إصراره على النجاح جعله يتغلب على خوفه من المجهول، فاستأجر غرفة في اللوكانده العثمانية بمبلغ خمسة قروش ونام ليلته الأولى فيها وأعتقد جازما أنه لم ينم ليلتها بل كان ينتظر طلوع النهار ليبدأ أول خطواته في قاهرة المعز.
وما أن طلع الصباح حتى نهض عبد المطلب واستقبل الشارع ماشيا متجها نحو معهد الموسيقى  وهناك لمح الموسيقار محمد عبد الوهاب وكان يجري بروفات لأغانيه ضمن المعهد فتعرف عليه وعلى غيره من كبار الموسيقيين وزوار المعهد.

عاش عبد المطلب الفقر والضنك بكل تفاصيله فكان يدور ويدور ويتردد الى المقاهي حيث ثابر على سماع الاسطوانات والتفرج على الفنانين ممن ينتظمون على الجلوس في المقاهي ولعل صورة الراوية الشعبي وربابته وقصصه التي شاهدها في تلك المقاهي كان أحد أهم العوامل التي ساهمت في تكوين ونماء شخصية المطرب الشعبي داخل محمد عبد المطلب .

اشتد ضغط الحياة على عبد المطلب وأصبح وضعه لا يطاق فاضطر إلى السير إلى شارع توفيق حيث يقع مكتب عبد الوهاب شاكيا سوء الحال وضيق ذات اليد فما كان من محمد عبد الوهاب الا أن اعطاه عشر جنيهات وضمه الى فرقته ككورس سنيد ومن يستمع الى اغاني محمد عبد الوهاب لما أنت ناوي، و من عذبك، وليلة الوداع، لابد أن يميز صوت طلب العريض من خلال ترداد الكورس للمذهب .
الا ان عمله لم يدم مع عبد الوهاب لخلاف وقع بينهما بعد أن أخلف عبد الوهاب وعده بأخذه معه الى باريس وذلك اثناء تحميض فيلم الوردة البيضاء.

وهنا قرر ان يغني في الصالات  ووجد فرصته في كازينو بديعة الذي كان مدرسة لتفريخ الفنانين فمعظم المبدعين تخرجوا من مدرستها من امثال فريد الاطرش واسمهان وابراهيم حمودة ومحمد فوزي والعملاق محمود الشريف حيث غنى أغاني عبد الوهاب فبدأالناس بتقبله وعرف وفرة النقود لأول مرة في حياته.

في كازينو بديعة وتحديدا عام 1933 كانت نقطة تحول في حياة هذا العملاق حيث تعرف على المبدع محمود الشريف فكانت صداقة ورحلة عمر وانتاج فني عبقري دام لعقود.

تختلف الأراء حول الملحن الأول الذي لحن لعبد المطلب ولكني أعتقد ويعتقد معي الكثيرين أنه كان معلمه الموسيقار داوود حسني  فقد لحن له أوائل أغانيه ومنها أغنية “وديني بلد المحبوب” وأعتقد أنه أكبر اثبات على اقتناعه بعبد المطلب كمطرب رغم ان الكثيرين شككوا بصوته ومستقبله كمطرب .
ولا نستطيع القول أن داوود لحن لعبد المطلب مقابل النقود … لأن عبد المطلب كان فقيرا … بينما داوود كان ميسور الحال وملحنا لكبار مطربي ذلك الزمان .

شد صوت محمد عبد المطلب انتباه العملاق محمود الشريف وكذلك كم الطرب الموجود في صوته وطريقته المميزة في أداء الموال الشعبي فقرر ان يلحن له واختار كلمات للشاعر الغنائي عثمان خليفة هي أغنية  “بتسأليني بحبك ليه” وكان مقررا لهذه الأغنية أن تكون للمطرب إبراهيم حمودة ولكن محمود الشريف ارتأى انها تصلح لعبد المطلب …وكان أن سجلها محمد عبد المطلب وكانت السبب في اطلاق شهرة ملك الأغنية الشعبية بلا منازع.

ولعل محمود الشريف رأى في عبد المطلب توأم روحه ومرآة نفسه فأعطاه بلا حدود مما جعل صيتهما يملأ أجواء القاهرة التي كانت تربة خصبة لكل ما هو جديد وجميل فصنعا معا أجمل غنائيات ظهرت تلك الفترة ومنها “ودع هواك وإنساني” من كلمات محمد علي أحمد و”اسأل مرة عليا” و”بياع الهوى راح فين” و “يلي سقيتني الهوى” والكثير من الأغاني التي ستعيش أبدا .

توطدت هذه الصداقة بين المبدعين و خاصة أنهما تزوجا أختين شقيقتين فجمعهما بالإضافة إلى الإبداع القرابة والصداقة.

بعد أن تحسنت أحواله المعيشية وبدأ يكسب من الفن خاض عبد المطلب مجال السينما فجرب الإنتاج السينمائي ولكنه فشل وخسر كل ما جمعه من أموال في فيلم  “الصيت ولا الغنى” .
فقرر اعتزال الفن نهائيا ولكن محمود ظل يقنعه بالعودة للغناء إلى أن تم له ذلك وعاد عبد المطلب عن قرار الاعتزال وأحمد لله انه عاد وإلا كنا خسرنا كما هائلا من الفن الجميل.

عاد عبد المطلب عن اعتزاله بكل حماسة فبدأ يبحث عن ملحنين ولكنه فوجئ أن الملحنين الكبار كلهم كانوا يسعون وراءه … و منهم محمد عبد الوهاب و السنباطي وكمال الطويل  وعزت الجاهلي و أحمد صدقي .

وسأسرد هنا معظم الملحنين الذين خصوا عبد المطلب بألحان خلدت هذا النوع من الطرب :

الملحن الكبير محمد عبد الوهاب أعطى في عبد المطلب في بداية شهرته أغنية “كان ليه خصامك ويايا” من كلمات علي شكري. والكثير من أغانيه الأخرى ولعل أهمها “يا نايمة الليل وانا صاحي”.

أما الملحن الكبير كمال الطويل فقد أعطاه أغنية واحدة فقط طبقت شهرتها الآفاق وهي أغنية “الناس المغرمين ” التي برأيي الشخصي أنها قد تعد أحدى أهم الأغاني الشعبية في تلك الفترة وخاصة أن كمال الطويل دمج فيها اللون الشعبي بالتطريب.

الملحن الكبير رياض السنباطي عملاق آخر من عمالقة الغناء المتقن خص عبد المطلب بأغان عدة منها ما نجح نجاحا باهرا ومنها ما لم يحقق النجاح ومن أهم الأغاني التي نجحت واشتهرت “أغنية “شفت حبيبي” التي أصبحت علامة في تاريخ عبد المطلب الفني.

عزت الجاهلي الملحن المعروف حينها أعطاه الكثير الكثير من الأغاني ومنها إحدى أهم وأشهر أغانيه على الإطلاق هي أغنية “حبيتك وبحبك وحاحبك على طول”.

عملاق من نوع مختلف وهو العملاق محمد فوزي الذي أعطى عبد المطلب أحدى أجمل أغانيه وهي أغنية “ساكن في حي السيدة”. وله أيضا عدة أغان منها “لا قابلتك ولا كلمتك”

شيخ المشايخ الكبير زكريا أحمد كان ممن لحنوا لعبد المطلب وأذكر من الحانه احدى أحب الأغاني الى قلبي “آه من جمال العيون ” . أنصحكم بالاستماع الى هذه الأغنية لتعرفوا لماذا أحبها ولماذا أحب زكريا .

الكبير أحمد صدقي كان له نصيب في عبد المطلب فأعطاه عدة أغان منها : “ما فيش في القلب غير انته”  – “عشان بدك ترضيني” – “إن شاء الله” “صحبة ” وغيرها .

أصبح عبد المطلب حصانا رابحا فكل الأغاني التي غناها طبقت شهرتها الآفاق وأشهرت كل من مغنيها وملحنها فتسابق الملحنون والشعراء وجروا لاهثين خلف عبد المطلب ليخصوه بالألحان.

محمد الموجي الملحن الرائع  أعطاه الكثير من أغانيه و منها “منور مآنس”  “وحياة حبنا”  “اوهام الحب” “خصام الهوى”  “بحر المحبه” ” أعطف يا جميل “

أعطاه سيد مكاوي أغان كثيرة ومنها  أغنيته الشهيرة “اسأل مرة عليا”  “تاخذ على خاطرك”  “اسأل مجرب”

بليغ حمدي أيضا كان له نصيب في عبد المطلب حيث لحن له الكثير من الأغاني الوطنية والعاطفية ومنها  “يا حبيبتي يا مصر” “نقش الحنة” “من نصر لنصر” يابو قلب دهب  – ولا الف جواب.

عبد الرءوف عيسى ملحن خطير آخر لم تكتب له الشهرة كأقرانه ولكنه لحن لعبد المطلب أحد أجمل أغانيه هي أغنية “يا حاسدين الناس”.

وهؤلاء بعض الملحنين اللذين ممن لحن لعبد المطلب وأمثلة عن أغانيهم “

حسين جنيد الذي لحن له أغنيته الشهيرة “ما بيألش عليا أبدا”
عبد العظيم محمد “في قلبي غرام
عبد العظيم عبد الحق و من أغانيه ” يا حلو ما تهدي”  “بوردي أجيكم”
إبراهيم رأفت ” قالوا لي بلدي ”
سيد إسماعيل ” مين يحوش عني العيون ”
عبد الوهاب كرم ” كاس الهنا ”
محمود كامل “يا خاين” والأغنية الرائعة “الدبلتين والاسورة”
مرسي الحريري “الليل وأملي وإنا”
حلمي بكر “والنبي حلوين” “أما شفت يا خال” “روق القناني”
علي فراج “حقك عليا” “من بحري لقبلي”
عطية شرارة “أغان وطنية منها “عشرين مليون”
احمد عبد القادر “سوريا حبيبتي”
فريد غصن “استعراض الفاكهاني”
رياض البندك “عمري في هواك محتار”
فؤاد حلمي “جبر البحر”
محمد عمر “على بابك”
محمد الكحلاوي “يا ليالي منى”
محمود إسماعيل جاد “روحي وعقلي وقلبي انته”

صار عبد المطلب المطرب الشعبي الأشهر في عصره وملك الارتجال الأوحد وسيد أسياد الموال ، فكل يريد أن يقلده… و مزاياه المتعددة وأخلاقه الجميلة ميزتاه عن غيره من المطربين، فقد كان شهما وكريما وبسيطا ومتواضعا وابن بلد حقيقي جدا.
هذا بالإضافة إلى كونه صوت متمكن قوي رجولي ، واضح النبرة ، صحيح مخارج الحروف ، واسع المساحات متحكم بصوته تحكما علميا مقامياً كاملا .
صوت حلو يفيض طربا وشجنا وموسيقى.
صوت بحس حقيقي عفوي وأداء بخصوصية متفردة لا يشبه أحد ولا يشبهه أحد.
عبد المطلب لم يكن يتصنع الحس فإحساسه كان فطريا حقيقيا غير مصطنع.

نستطيع القول وبكل جدية أن محمد عبد المطلب أرسى قواعد الأغنية الشعبية المصرية ورفع مستواها وجمّلها جعلها لونا مهما رصينا وخاصة أنه انتقى ألحان وكلمات أغانيه بعناية شديدة واحترم فنه لدرجة التقديس.

لم يقتصر عبد المطلب على الغناء الشعبي فقد غنى عشرات الأغاني المختلفة منها ما هو وطني و منها ما هو ديني مثل أغنيته الشهيرة “رمضان جانا” الذي لم تتوقف المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية عن بثها في رمضان من كل عام حتى يومنا هذا و الحقيقة أن معظم الناس لا يشعرون بجمال رمضان وبحضوره إلا عندما يسمعون هذه الأغنية الجميلة وله أيضا الكثير من الأغاني الدينية كالأغاني التي لحنها عبد العظيم محمد  “سبحانه هو البديع” “الموجـود” “المعـز المذل” “الغـفـار” “العــدل” وغيرها.

شارك محمد عبد المطلب بالكثير من الأفلام هي:

1942 – على بابا و الأربعين حرامي
1944 – كدب في كدب
1945 – تاكسي حنطور – من إنتاج وتلحين محمد عبد الوهاب.
1948 – الصيت و لا الغنى ( الذي أنتجه وخسر فيه كل أمواله كما أسلفنا )
1953 – بيني و بينك
1971 – شارع الحبايب

توفي رحمه الله في نفس شهر ولادته في 21-8-1980 تاركا إرثا فنيا خطيرا وفراغا لا يمكن ملؤه.

رحم الله صاحب الطربوش بقدر ما وهب من جمال.

رأيك يهمنا