دفورجاك

هو المؤلف الموسيقي التشيكي العظيم، الذي جمع في أسلوبه بين الملامح القومية لبلاده تشيكوسلوفاكيا، وبين الإمكانيات العلمية الحضارية التي استوعبها الألماني الكبير برامز في فكره ووجدانه..
هو مؤلف سيمفونية العالم الجديد، الشهيرة التي كتبها لأمريكا … والرقصات السلافية، وأوبرا روزالكا العذبة..
ولد “انطونين دفورجاك” بعد مولد سلفه ومواطنه سميتانا-أبو الموسيقى التشيكية، ورائد موسيقاها القومية – بسبعة عشر عاما.. كان ذلك في 8 سبتمبر عام 1841 بإحدى ضواحي العاصمة “براج”، وكان الابن الأكبر لجزار القرية الذي كان يملك فندقها الوحيد.. وقد رزق أبوه من بعده بثمانية أطفال.. وهذا ما جعل طفولته في شدة القسوة والمعاناة. أعده والده ليرث عنه مهنة الجزارة، وبالفعل اصطحبه معه ليساعده في عمله الذي يبعد تماما عن مهنة الفن الموسيقي.. ولكنه مع كل ذلك، كان مولعا بالموسيقى فدرس الفيولين وتمكن بسرعة من الوصول في عزفها إلى درجة مكنته من ممارسة الأداء العام بكنيسة القرية. أما ناظر مدرسة القرية وكان يدعى “انطوني ليمان” فقد علمه عزف البيانو والأورغن كما علمه النظريات الأساسية الأولى للموسيقى.. وذلك بعد أن اكتشف موهبة الطفل الخارقة للعادة وظروفه العائلية التي تدعو إلى رعايته والاهتمام بمواهبه الموسيقية.. ويرجع إليه الفضل في إقناع والديه بموهبة الابن النادرة، وبضرورة مواصلة تعليمه الموسيقي.
في عام 1857، التحق دفورجاك بمعهد دراسة الأورغن بالعاصمة براج، وتخرج منه بعد عامين من العمل الجاد المتواصل والتحصيل الضخم والتعرف على إمكانيات هذه الآلة الموسيقية الهائلة والمعقدة. وبالرغم من أن سميتانا لم يكن أستاذه بشكل مباشر، فإن دفورجاك كان قد اتخذ من مؤلفاته مدرسة ونماذج في قمة المثالية.. حتى أن أعماله طوال حياته حملت ملامح بصمات سميتانا الموسيقية كمدرسة قومية نادرة.. ذلك بالرغم من أن دفورجاك جاء في وقت تمتعت فيه بلاده بشيء من نسيم الحرية التي كان سميتانا يتوق شوقا إليها.. ولذلك فإنه في موسيقاه يعتبر تكملة للطريق الذي سار فيه سميتانا.. فبينما كان السلف مجردا في فنه، نجد دفورجاك رومنتيكيا متحررا، ولكن مع التزام بالقوالب الكلاسيكية الرصينة للسيمفونية وأعمال موسيقى الحجرة، والموسيقى الدينية.. والأوبرا، وأعمال البيانو، والأغاني.. وكافة القوالب الكلاسيكية التي تناولها في مؤلفاته.
كان أول عمل التحق به وهو في الثامنة عشرة من عمره، هو عزف الفيولا بفرقة كانت تعمل بأحد المطاعم الكبرى ببراج. وفي عام 1862 التحق بأوركسترا المسرح القومي حيث عمل عازفا تحت قيادة سميتانا لسنوات طويلة انتهت عام 1873. كان مرتب العازفين من القلة بحيث لا يكفي لسد حاجات الحياة الضرورية، فاضطر دفورجاك إلى ممارسة تدريس الموسيقى وعزف الأورغن بالكنيسة إلى جانب عزفه بالأوركسترا، حتى يتمكن من كسب عيشه الضروري.
من الجدير بالذكر أن دفورجاك كان يكتب الموسيقى بانتظام ومثابرة طوال تلك الفترة من حياته.. ولم يكن مقتنعا هو نفسه بأي قيمة فنية لهذه الأعمال الأولى، فأحرقها جميعا حتى لا يفصدم بأي خطأ يلاحظ فيها – وقرر مواصلة الدراسة حتى يتمكن من الصنعة الموسيقية في أعلى وأقدر مستوياتها.. وحتى عندما كان يرضى عن بعض أعماله، لم يكن يوافق أن يعرف أحد شيئا عنها، فهي بالنسبة له محاولات على طريق الفن المنتظر.. لذلك لم يكن حتى زملاؤه في الأوركسترا يعلمون شيئا عن مؤلفاته إلا بعد عزفها.. ولم يسمع عنه النقاد شيئا إلا بعد أن فوجئوا بمؤلفاته تعزف مرات ومرات حتى أن سميتانا أعجب بها ووضعها في برامج حفلاته كأعمال ناجحة. وهنا اتجهت إليه الأنظار كمؤلف موسيقي جديد.. وكانت سيمفونيته الثالثة من أهم أعماله التي أعجب بها سميتانا ولفت إليها الأنظار، وأدى نجاحها والنقد الرائع الذي حصلت عليه إلى البحث في حصيلة أعماله، وهنا تعاقدت معه دار الأوبرا على تقديم عمله الأوبرالي الثاني “الملك وعامل المنجم” الذي كان قد كتبه فيما بين 1871-1873 .. وحدث أثناء التدريبات على أداء هذه الأوبرا أن اتضح عدم إمكانية عرضها لصعوبتها، ولعدم ملاءمة النص الشعري. فما كان من دفورجاك إلا أن سحب العمل.. وأعاد كتابة الأوبرا من أولها إلى آخرها، متجنبا كل ما ظهر أنه صعب أو غير ملائم.. حتى أصبحت هذه الأوبرا عملا فريدا في تراث الأوبرا العالمية من ناحية الجمال الموسيقي وملاءمة اللحن للأداء الأوبرالي.
وحتى يتمكن دفورجاك من التفرغ للتأليف، فقد ترك العزف بأوركسترا المسرح وعمل عازفا للأورغن بالكنيسة مكتفيا بالقدر القليل من المال الذي يدره عليه هذا العمل الذي لا يشغل من وقته سوى ساعات قليلة كل أسبوع. وتعمق في جذور الوطن التشيكي وقوالبه الموسيقية النابعة من طبيعة موسيقاه الشعبية، مستلهما روح الشعب على هدى خطوات سميتانا العظيم الذي كان قد فطن من قبله إلى أهمية الأوبرا في الموسيقى التشيكية بالنسبة للحركة القومية بوجه عام.. فمنح هذا القالب المزيد من الوقت والعمل والتأمل.. وبعد انتهائه من أوبرا “الملك وعامل المنجم” كتب أوبرا ريفية بعنوان “الفلاحون ذو رؤوس الخنازير” وانتهى منها عام 1874. وفي عام 1874، تقدم دفورجاك بطلب إلى الحكومة ليحصل على منحة كانت تقدم للموسيقيين الموهوبين، وذلك بهدف التفرغ الكامل للتأليف، ولمحاولة الاستزادة من معارف عمالقة التأليف أمثال برامز وتشايكوفسكي.. وأرفق بطلبه كلاً من السيمفونية من مقام “مي بيمول كبير” و “ري صغير”، وكان “برامز” العظيم عضوا في لجنة التحكيم، فاهتز كيانه بأعمال هذا الموسيقي غزيرة الموهبة.. وبالطبع حصل على المنحة، وبدأ يعمل وينتج.. ويسافر إلى “فينا” من وقت لآخر، (وهي عاصمة الموسيقى التي تقع على بعد بضع كيلومترات من الحدود التشيكية).. للقاء برامز وأخذ مشورته فيما يكتب من أعمال. كان برامز.. الألماني الأعزب العجوز.. يلتقي به وقت الغداء في المطعم المجاور لميدان القديس كارل بفينا. ومن وقت لآخر، كان يجد له الوقت الكافي لمراجعة دقيقة لما كان يكتبه من أعمال.. ومن هذه اللقاءات، طبع برامز بصماته الفكرية على أعمال دفورجاك الذي لم يكتف في أعماله بالتعبير الصادق، بل أصر على أن تخرج في أعلى مستوى من الشكل الموسيقي الذي لم يجده متحققا في مؤلفات موسيقي آخر أفضل من برامز.. كانت العاطفة العميقة، والإحساس بالطبيعة، وضميره الموسيقي، وإحساسه الدفين بالإيقاعات الشعبية التشيكية تشكل ألحانه الغنائية الثرية، ومضمونها الموسيقي الهائل المتدفق في تكامل.. وهذا ما ميز أسلوبه في كل من المضمون والشكل على السواء.. تكون جانب كبير من شهرة دفورجاك على إمكانياته الرائعة التي عالج بها النص الشعري الشعبي لمقاطعة مورافيا..
وقد بلغ إعجاب برامز بها حدا كبيرا جعله يتحمس لنشرها. فاتصل بصديقه الناشر سيمروك Simrock ببرلين ورجاه أن يحتضن هذه الأعمال النادرة الأصالة.. وأدى ذلك الى تعاقد جديد مع دفورجاك كان من نتيجته أن كتب “الرقصات السلافية” الشهيرة لثنائي من آلات البيانو، ثم للأوركسترا .. وتميزت هذه الرقصات، وبدأت شهرتها العالمية على الفور لما تميزت به من الأستاذية الناضجة في إمكانيات الكتابة الموسيقية، والاستعمال البراق لوسائل التعبير الموسيقي، فضلا عن الميلوديات الغنائية والشاعرية والإيقاعات المثيرة.. وأصبحت من بين أشهر الأعمال الأوركسترالية التي عرفها التراث الموسيقي العالمي على الإطلاق.
بدأت شهرة دفورجاك تغزو العالم، وتضطرد.. وتوالت عليه العروض من الناشرين في مختلف أنحاء العالم.. والتكليف من الجمعيات الموسيقية المختلفة بشتى بقاع العالم لكتابة المزيد من الأعمال الموسيقية.. وكانت جميعها تحقق النجاح والمجد والشهرة لمؤلفها العبقري المثابر. وتلقف قادة الأوركسترا أعماله بإعجاب، وقدموها للجماهير بأقصى إعجاب وعناية ورعاية .. وكان على رأسهم “هانز ريختر” الذي كان يدعو المزيد من الناشرين للاستماع إلى أعمال دفورجاك الجديدة لينشروها على العالم بأسره.. وبعد أن حصل على هذا النجاح والتقدير في داخل بلاده، وفي شتى بقاع العالم، بدأ مهنة جديدة وهي القيادة الموسيقية. ظهر لأول مرة على منصة القيادة عام 1878.. ونجح في قيادة أعماله التي كان قد اعتاد الاستماع إليها من أشهر قادة الأوركسترا المتخصصين.. وانتقل من أوركسترا إلى أخرى وأحب هذه المهنة وأتقنها، حتى أنه كثيرا ما قدم أعمالا لمؤلفين آخرين على رأسهم أستاذه برامز، وسلفه ومعاصره سميتانا.
برغم نجاح مؤلفاته بشكل ساحق، فإن مؤلفاته في مجال الأوبرا لم تلق نفس المستوى من الاستقبال الجماهيري.. فأصر على مواصلة البحث وراء الإجادة في هذا المجال الذي اعتبره المجد الأول للموسيقى التشيكية.. فالأوبرا هي المجتمع كله مجسدا على المسرح في دراما إنسانية بصرية سمعية.. وكان المسرح القومي بالعاصمة براج يستعد للافتتاح، فكتب بكل طاقته أوبرا “ديمتري” عام 1881 بموضوع روسي شهير، وبالرغم من الإجادة والنجاح، فإنه أعاد كتابتها بالكامل. هذا نموذج فريد مبالغ فيه للنقد الذاتي، والاحترام الفني.. من أجل الإجادة والصدق .. وعندما تعرض هذه الأوبرا الآن، نستمع إلى نصوصها الأصلية الأولى مع تبديل بضع فواصل قليلة من النسخة المعدلة.. وفي عام 1882، ماتت أمه. ونستمع إلى مسحة الحزن العميق تسري في عدد من الأعمال التي ضمنها فجيعته، وعلى رأسها سيمفونيته السابعة (من مقام ري صغير) والتي نشرها “سيمروك” برقم مخالف هو رقم 2 ونفس الخطأ نجده قد وقع فيه بالنسبة لسيمفونيته الثامنة (من مقام صول كبير) والتي نشرها برقم 4 وكذلك سيمفونية العالم الجديد التي كتبها دفورجاك برقم 9 ونشرها سيمروك برقم 5. من المهم جدا أن نذكر كيف لعبت كل من فينا ولندن وباريس دورها في حياة دفورجاك، كما لعبته في حياة الكثيرين من زعماء الموسيقى الرومنتيكية على وجه الخصوص. كانت فيينا هي الكعبة التي تلهم عباقرة النغم، فيحجون إليها ويعيشون تحت سمائها.. فهي المنبع الخصب العريق للمدرسة الأكاديمية.. فيها عاش الألماني بيتهوفن أغلب سنوات حياته.. وإليها حج برامز وقضى أكبر جانب من حياته .. وغيرهم كثيرون.. وكذلك دفورجاك كان يجد فيها العلم والمستوى الأكاديمي من الدراسة والإبداع والأداء والاستماع والنقد.. أما باريس فهي الحياة.. الصالونات، وملتقى الأدباء والفلاسفة والرسامين والموسيقيين في بوتقة واحدة هي حياة الفن، وصالونات الفن والحب والفلسفة.. ولندن.. وجد فيها الموسيقيون مجالا أكاديميا للأداء .. فهي تدعو كبار الموسيقيين لعرض فنونهم، وتمنحهم الدرجات العلمية ..
وقد منحت الدكتوراه الفخرية في الموسيقى لكل من هايدن وبرامز ودفورجاك.. وكثيرين غيرهم ، تقديرا لإمكانياتهم التي تفتقر هي إليها.. زار إنجلترا تسع مرات على الأقل، فيما بين عام 1886 و 1896 وهناك قاد الأوركسترا مقدما أغلب أعماله في لندن وبرمنجهام وليدز. ولم يدركه الغرور قط، حتى وهو في قمة مجده ونفوذه.. وطالما قال: “بالرغم من كل هذه الشهرة، سأظل كما كنت دائما التشيكي البسيط .. الموسيقي القروي” وكان دائما يؤكد قوميته ومنبعه .. ضاربا المثل في القومية والبساطة والتواضع. كان صديقا حميما لقائد الأوركسترا الشهير “هانز فون بيلوف” الذي طالما قدم موسيقاه إلى جماهير ألمانيا بالذات.. وبدعوة منه زار دفورجاك ألمانيا، وقاد أشهر أوركستراتها وحصل على نجاح مماثل لأمجاد لندن.. فما كان منه إلا أن أهدى سيمفونيته من مقام فا كبير التي كان قد كتبها عام 1875 إلى صديقه عرفانا بالجميل، وقد سافر “هانز فون بيلوف” بعد ذلك بسنوات إلى مصر ليقيم بها ويعمل بموسيقات الجيش المصري، ثم بأوبرا القاهرة.. حتى مات بالإسكندرية ودفن بها.
كان تشايكوفسكي قد زار براج في ثلاث مناسبات، كانت المرة الأولى عام 1888 حيث قدم حفلتين وتعرف على دفورجاك وأعجب بموسيقاه . حتى أنه أهداه “المتتالية الثالثة للأوركسترا”.. وفي عام 1890 دعاه تشايكوفسكي ليزور روسيا ويقدم أعماله لجماهيرها. وفي موسكو استقبلت الجماهير موسيقى دفورجاك بعاصفة عارمة من التصفيق .. وقبل أن يعود إلى وطنه، أهدى لتشايكوفسكي سيمفونيته من مقام ري صغير، عرفانا بالجميل ورمزا للتقدير. وبعد عودته، عين أستاذا للتأليف بمعهد براج الموسيقي، وفي 1892 أصبح المدير الفني لنفس المعهد الذي تفانى في خدمته حتى أنه أثرى الموسيقى التشيكية بتعليمه وتخريجه لمجموعة من أعظم الموسيقيين التشكيليين أمثال سوك – نوفاك – كاريل. وصلته دعوة من أميركا ليتولى رئاسة المعهد الموسيقي بنيويورك وقد لبى الدعوة ليوسع من دائرة جماهيره وممارسته الفنية.. وهناك وجد بيئة جديدة ملأت كيانه بأحاسيس من نوع غريب.. كان أفضل تعبير عنها، سيمفونية العالم الجديد، التي ضمنها ألحانا شعبية للهنود الحمر والزنوج الإفريقيين.. تلك الأغاني التي كانت تعمق أحاسيسه بالغربة رغم كل فرص الشهرة والعمل والكسب.. أحاسيس الحنين للوطن واللهفة للعودة إليه. وبعد عودته إلى براج، واصل عمله كمدير لمعهد الموسيقى وكتب أعمالا جديدة أهمها أشهر أوبراته، روزالكا، وأكثرها جماهيرية ونجاحا. فهي العمل الذي يشتمل على أقصى ما وصل إليه دفورجاك من إمكانيات في أعماله السيمفونية والأوبرالية على السواء.. وأصبحت أكثر الأوبرات التشيكية – بعد الخطيبة المباعة لسميتانا – رواجا في المسارح التشيكية.
في أول مايو من عام 1904.. شعر بوعكة خفيفة، مات بعدها بأيام قليلة عن ثلاثة وستين عاما.. أنتج خلالها تراثا مجيدا للبشرية تتبلور فيه صور من الجمال الفريد والإيقاعات الساحرة والتوزيع الأوركسترالي الثري الذي اكتسبه من خبراته التي كونها من زياراته للكثير من الدول والشعوب .. والتي استمدها من المنبع، من بيئته في قلب الريف التشيكي.. وفي عمق الألحان الشعبية التي تتغنى بكل الجوانب الإنسانية لوطنه الحبيب تشيكوسلوفاكيا.

رأيك يهمنا