محو الأمية الموسيقية

كنت دائما أتسائل عن أسباب تأخر فن الموسيقا والرسم والنحت عند العرب في العصر الحالي مقارنة بغيرها من الفنون الأخرى …..رغم أن الغناء والخط العربي الزخرفة تطورت تطورا مذهلا في العصر العباسي الأوسط ..
وكنت دائما أسر لنفسي أن السبب في التأخر هو التحريم الإسلامي للمعازف و لتصوير الكائنات الحية …..
والحقيقة أنني لم أكن المتفرد بها الرأي … بل هو رأي الغالبية من المثقفين الذين أدركوا انحطاط فن الموسيقا …
ولكنني لم أكن أجرؤ على المجاهرة بهذا الرأي ربما خوفي من أن أهاجم … من بعض المتعصبين الذين أعدهم أنصاف المثقفين دينيا …. وقد تعرضت لهذا الأمر مرات عدة…. و خاصة على صفحات الانترنت … واتهمت أكثر من مرة بالضلال والكفر … بل وحتى تلك التهمة المعلبة … بالخروج عن الدين والإلحاد …
ولكني ومع مرور الوقت وزيادة الإدراك و نتيجة التراكم المعرفي مع مرور الزمن … أدركت أنني كنت مخطئا بتحميل التحريم الإسلامي للموسيقى سبب التخلف منفردا …. وخاصة بعد أن قرأت الفارابي … وابن سينا … والرازي … وغيرهم من المحاولات الجادة لمناقشة العلوم الموسيقية مناقشة علمية تعتمد على البحث العلمي ….
نعم  لقد كنت مخطئا فتأخر فن الموسيقى له أسباب كثيرة جدا … أهمها غياب مؤسسات تعليمية جادة ذات طبيعة علمية تدرس الفن الموسيقي تدريسا أكاديميا يعتمد على العلم كمنهاج ….واقتصار التعليم على النقل من شخص لآخر من خلال جلسات منزلية خاصة وكلنا نعرف مخاطر هذه الطريقة .. وخاصة أن المعلم قد يكون ذو تعليم خاطئ أساسا …. ويجب أن لا ننسى أن الذاكرة البشرية ( الحفظية ) تخون دائما .. وخاصة أن الحفظ سواء كان حفظ المعلومة أو حفظ الجملة الموسيقية …. قد تشوبه الشوائب بالتناقل ….
وتناقل العلم في غياب التدوين أدى إلى نتائج كارثية منها اختلاف الألحان بمرور الزمان حيث أن تطريز وتطريب الألحان أدى إلى اختلافها … نتيجة اختلاف الطبيعة البشرية التي تميز كل حنجرة عن غيرها من ناحية المقدرة والإمكانيات … التي تستطيع تأديتها …. فكل حافظ للحن معين يضيف إليه ما يعتقده أجمل … وكل حنجرة تطوع اللحن إلى ما تستطيع هي أداءه …. حسب قدرتها .
ونلاحظ هنا تطور علم المقامات وعلم الخط العربي في مرحلة ما … حين كانا يدرسان ضمن المساجد جنبا إلى جنب مع العلوم الفقهية والدينية الأخرى ….
ونلحظ أيضا ..أن مستوى تأخر الأغنية يقل قليلا عن الموسيقى … كعلم .. وخاصة أن الغناء مرتبط بالكلمة ( الحالة الشعرية ) وان الغناء قد يتم بدون تدخل الآلات الموسيقية .. التي هي السبب الأول للتحريم الديني …كما ان الغناء قد يكون ذا طابع ديني .
ونلاحظ هنا أننا لازلنا وحتى اليوم نعاني من أنصاف المتعلمين ممن تلقوا العلم عن طريق الحفظ … والمشكلة الأكبر أنهم سرعان ما يبدأ ون بتعليم غيرهم مما تعلموه خطأ أساسا … والغريب أنهم يتشبثون برأيهم وبما تعلموه دون النظر جيدا في المعلومة .. أو محاكمتها أصلا بطريقة البحث العلمي .
( لا تزال نسبة كبيرة من المشتغلين في مجال الموسيقى في العالم العربي من الأميين موسيقيا ممن تعلموا عن طريق السماع ) …
وعلينا هنا أن لا نلغي دور السماع … فالسماع الصحيح هو أحد شروط التعلم الموسيقي ….
ولأن التدوين الموسيقي كان نادرا … وحتى ثلاثينات القرن العشرين فإننا لا نستطيع أن نستقي معلوماتنا عن المقامات إلا عن طريق ما هو محفوظ و مخزن في ذاكرة بعض المشتغلين من أغان شعبية وموشحات ….تناقلها الأجداد عن آبائهم وأجدادهم …
في الثمانينات من القرن الماضي قال لي أحد أساتذتي نديم الدرويش رحمه الله أن الموسيقى في تدن مستمر وأنها ستظل كذلك مادام نسبة المشتغلين في هذا الفن يعتمدون على الحفظ في التعلم ….
في أوائل القرن الماضي فطن المتعلمين المشتغلين في الموسيقى إلى ما عانته وما تعانيه الموسيقى من تدهور حاد ومن سيطرة أنصاف المتعلمين ومن الاختلاف الحاد في النظريات والأسس بل الاختلاف حتى في أبعاد السلالم الشرقية وذلك نتيجة التناقل … الحرفي للمعلومة … فحاولوا الاستئناس بالتجربة الأوربية في توحيد السلالم والأبعاد … والنظريات… وتنادوا إلى مؤتمر أقيم في القاهرة عام 1932 …. ولكنهم اصطدموا بتنوع كبير جدا ..وتشبث بالأبعاد كل حسب بلده ….وحسب الموروث الشعبي لديه …..المهم ان هؤلاء الأساتذة وبوجود بعض المستشرقين من الموسيقيين المهتمين بموسيقا الشرق خرجوا بمقررات لتوحيد المناهج … وتوحيد ما استطاعوا توحيده من مقامات وسلالم …
ورغم خطورة هذه الخطوة على الموروث الشعبي للبلاد منفردة إلا أنني أكاد أجزم أنها الطريقة الوحيدة للنهوض بفن الموسيقا …
وأنا وبرأيي الشخصي أن أفضل طريقة لتعلم الموسيقى هو تعلمها كلغة …. لغة بحتة . مع توحيد المصطلحات والسلالم … وتوحيد المادة النظرية … مع اعتماد طريقة التدوين الغربية ….
إن تعلم الموسيقى كلغة مثلها مثل أي لغة ..ابتداء من الأحرف وتعلم كتابتها على المدرج لموسيقي خماسي الخط وصولا إلى تنفيذ الأحرف على آلة موسيقية … هي الطريقة الأسلم برأيي .
نعود قليلا ورغما عنا إلى موضوع التحريم الديني الذي أؤكد أنه سبب من أسباب تأخر الموسيقا ..هذا بالإضافة إلى الناحية الاجتماعية حيث ينظر للمشتغل بالموسيقى نظرة اجتماعية سيئة للغاية مما جعل تبادل العلوم الموسيقية يتم بخفية وضمن الجلسات الخاصة …. حيث هامش الحرية ( حرية تبادل المعلومات ) قليل جدا …
ولأن علم الموسيقى وعلى مدار الأيام .سيطر عليه أنصاف المتعلمين .. وبعض الدراويش والمتصوفة ….
ولأن علم الموسيقى متأخر في بلادنا
ولأن العالم يستحق أن يصبح أجمل ….بموسيقى متطورة صحيحة ….
فأنا أدعوا… إلى محو الأمية الموسيقية من خلال التعلم …عن طريق المعاهد المتخصصة المعترف بها ..أو على الأقل عن طريق مدرس هو أصلا حاصل عل شهادة من أحد هذه المعاهد .
أدعوا إلى نشر التدوين الموسيقي … وتدوين كل ما يستمع إليه … بتدوين موروثنا الشعبي تدوينا دقيقا على أيد خبيرة متعلمة .
ساعدوا الانسان بتطوير فن الموسيقى  من خلال محو الأمية الموسيقية .

رأيك يهمنا