السوناتا

ترتبط السوناته في أذهان جماهير الموسيقى بالشكل الذي وصلت إليه، في مؤلفات عظماء الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وعلى رأسهم هايدن وموتسارت وبيتهوفن.. فقد كتب كل من هؤلاء العباقرة عددا كبيرا من روائع التراث الموسيقي في قالب السوناته، وأيضا تحت اسم “سوناته” إلا أن هذا القالب العظيم قد مر بتاريخ طويل من التطور حتى وصل إلى الشكل الذي يرتبط في أذهاننا.
كلمة سوناته Sonata مشتقة من اللاتينية وأصلها “Sonare” أي “يسمع” أو “ما يعزف ويفتغنى”، وقد التصقت التسمية بالمقطوعات التي تعزف بالآلات الموسيقية في مقابل النوعية الثانية من الموسيقى، وهي التي كانت تغنى بالصوت البشري وتسمى “كانتانا” . وهي مشتقة أيضا من اللاتينية وأصلها Contare بمعنى “ما يغنى” بالصوت البشري . وتطورت السوناته لتصبح أهم القوالب الموسيقية على الإطلاق، فهي ذات قالب يشمل على العرض والتفاعل وإعادة العرض والختام، ويشمل على الحوار والدراما بين المقامات وجزئيات الألحان وتفاعلها ودراستها، ولذلك فقد أصبحت الحركة الأولى في كلّف من السيمفونية والكونشرتو والرباعي الوتري، بل وسائر الأعمال الموسيقية الكبرى الأخرى مثل الافتتاحية وسائر أشكال موسيقى الحجرة (الثلاثي – الرباعي – الخماسي – السداسي… الخ) أصبحت تكتب من قالب السوناته. وهنا يجب علينا ان نفرق بين “قالب السوناته” وبين السوناته كمقطوعة موسيقية مستقلة ، تستخدم “قالب السوناته” أيضا في حركتها الأولى. فالسيمفونية مثلا وعلى وجه الخصوص “السيمفونية الكلاسيكية” :هي عبارة عن سوناته مكتوبة للأوركسترا الكامل، بينما السوناته تكتب بوجه عام لآلة البيانو، وكانت قبل وجود البيانو تكتب للآلات ذات لوحات المفاتيح مثل الكلافيكورد – الهابسيكورد وهي التي تطور عنها البيانو قبل منتصف القرن الثامن عشر.

كتب بيتهوفن 32 سوناته شهيرة قال عنها النقاد : إنها كانت كافية لتخليد بيتهوفن وتمجيده حتى لو لم يكتب في حياته غيرها. والسوناته تتكون من ثلاث حركات في أغلب الأحيان، وتوجد بعض الأعمال الشهيرة من أربع حركات، وعدد أقل من حركتين. وهي تكتب أساسا لآلة البيانو، ومنها ما يكتب لآلتين يكون البيانو أحدهما. فمثلا توجد سوناتات للبيانو والفيولينة، وأخرى للتشيلو والبيانو، وأخرى للكلارينت والبيانو. ويكون البيانو رئيسيا في السوناته دائما لأنه الآلة الوحيدة التي تتمكن من عزف الموسيقى كاملة بألحانها وهارمونياتها، أو القادرة على عزف ثلاثة خطوط لحنية (بوليفونية) أو أربعة أو أكثر في نفس الوقت . بينما تعجز آلات الأوركسترا جميعا عن عزف أكثر من صوت واحد في نفس الوقت باستثناء الآلات الوترية وبتحفظات كبيرة. يتمكن البيانو أيضا وحده من عزف نغمات متعددة في مساحة صوتية كبيرة جدا ، تشتمل على مساحة جميع الآلات الموسيقية الحادة الطبقة والغليظة الطبقة على السواء. ولقد حافظت السوناته حتى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر على القيم العلمية للتأليف الموسيقي في هذا القالب الرصين . ولم يتطرف مؤلفوها في التحرر من قيودها العلمية إلا قليلا، وهي لذلك لم تستعرض في نماذج كثيرة الإمكانيات الرومنتيكية التي تقدم براعة العزف المهولة “فيريتوزو Virtuosity” على البناء الموسيقي الرصين. واستعراض الأداء هو البراعة التي كانت تخرج بالصنعة الموسيقية من قيود القوالب إلى مظاهر الاستعراض الفردي في الأداء. لذلك ظل هذا النوع من المؤلفات أكثر من غيره محتفظا بقيم الكلاسيكية في صنعة التأليف دون صنعة الأداء وبوضوح أكثر، لم تفضَحّف السوناته بالمؤلف من أجل العازف، بل أصبح العازف دائما في خدمة الكتابة الموسيقية التي تسجل تاريخ الفكر والخيال والإلهام الموسيقي.

سمي قالب السوناته باسم “قالب الحركة الأولى” خاصة عند استعماله في الحركة الأولى للمؤلفات الأوركسترالية، وسمي أيضا “قالب السوناته السريع” نظرا لأن الحركة الأولى تكون سريعة Allegro في حركتها (في الزمن)، أما الحركة الثانية في السوناته فهي (كما هو الحال في السيمفونية والكونشرتو وأغلب المؤلفات الكبرى التي تشتمل على حركتين أو أكثر) بطيئة وغنائية الطابع، وكثيرا ما تكون في قالب الأغنية الرفيعة Lied (الليد)، أما الحركة الثالثة والأخيرة، فتكون عادة سريعة وبراقة وذات صيغة تعرف بالروندو Rondo وبالتحديد “الروندو سوناته”، نسبة إلى استخدام صيغة الروندو في أعمال السوناته.

لا تخلو مناهج لآلة موسيقية على الإطلاق من أعمال السوناته، أما البيانو فإنه الآلة التي لا يستمتع بها أحد دون أن يعزف أو يستمع إلى مؤلفات السوناته، تلك المؤلفات التي احتفظت بقيمها أكثر من أي قالب موسيقي آخر، ففي الموسيقى المعاصرة نجد أيضا السوناتات في صور جديدة تختلف كثيرا عن السوناته الكلاسيكية المجيدة، ولكنها تحتفظ مع ذلك ببصمات التراث العظيم في الوقت الذي نجد فيه القوالب الأخرى مثل الافتتاحية والسيمفونية والكونشرتو قد اتخذت، مسارات تجريبية شديدة البعد عن جذورها العريقة.

رأيك يهمنا