الإستشراق في الموسيقى الكلاسيكية الحديثة

لابد من الإقرار باستئثار أوروبا بالنصيب الأكبر من النشاط الموسيقي الجاد منذ عصر النهضة.
فقد تمكنت كل من ايطاليا وألمانيا مع النمسا من إثبات تفوقها الموسيقي خلال فترات متفاوتة ما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر الميلادي. هذا طبعا لا ينفي استمرار النشاط الموسيقي الجاد في مناطق اخرى من العالم القديم كالبلدان العربية والهند والصين وغيرها, لكن عصور الازدهار لهذه الموسيقات كانت قد ولت منذ قرون.
لم تكن القوميات الموسيقية في العالم متمازجة يوما كما كانت في القرن العشرين. فمع بداية ثورة الاتصالات وتخلي الموسيقيين عن تمسكهم القومية السابقة, بدأت الهويات القومية الموسيقية بالامتزاج, ودخلت إلى الساحة الموسيقية الكلاسيكية الغربية تأثيرات شرقية واضحة كانت المؤشر الأول لبداية أهم مراحل الإستشراق الموسيقي في التاريخ.
وللاستشراق الموسيقي تاريخ طويل فأكثر آلات الاوركسترا النموذجية تعود إلى أصول عربية. وقد استعار عدد كبير من المؤلفين الغربيين مواضيع وألحان شرقية مثل موتزارت في (بجعة القاهرة) فيردي في (عايدة) وغيرهم. لكن استعارات هؤلاء المؤلفين لم تتجاوز حد الاقتراب من سطح الشرق وتصوير السحر الذي كونه الخيال الغربي النهضوي عنه. في أواخر القرن التاسع عشر ومع نضوج المدرسة القومية الروسية ظهرت أولى الاعمال الكلاسيكية ذات الطابع الشرقي الحقيقي كالفانتازيا الشرقية و(إسلامى) لبالاكرييف أو (شهرزاد) لريمسكي كورساكوف. لكن هذه الاعمال لم تكن استشراقية بالمعنى الحقيقي للكلمة (ونعني به هنا: استعارة الغرب الفنية من الشرق) انما كانت شرقيتها نابعة من كون مؤلفيها ذوي اصول روسية شرقية وليست إلا انعكاسا للحضارة التي تشربوها في صغرهم قبل أن ينتقلوا للدراسة والعمل في موسكو أو غيرها من المدن الروسية غربية الطابع.
ويعتبر بعض المؤرخون ان فاتحة الاستشراق في الموسيقى الكلاسيكية الغربية الحديثة تمثلت في (افتتاحية بعد ظهيرة ظبي التي كتبها كلود ديبوسي ما بين عام 1892 ـ 1994 يقال ان ديبوسي كتب عمله هذا تأثراً بموسيقى عربية كان قد سمعها في باريس. فالالحان العربية في العمل لم تكن إلا البداية بالنسبة لديبوسي في استخدام التأثيرات الشرقية اللحنية والايقاعية. كان شغل ديبوسي الشاغل هو ايجاد لغة موسيقية فرنسية بعيدة عن المدرستين الألمانية ـ النمساوية والايطالية اللتان سيطرتا على المسرح الموسيقي طيلة قرون اربعة وقد بحث في امكانية الاستقاء من اللغة الفرنسية نفسها لكنه وجد نجدته في الاستعارة من الشرق. تبع ديبوسي عددا من المؤلفين الفرنسيين الذين استمروا في نهج الاستقاء من الشرق فكانت سلسلة الاغاني (شهر زاد) لموريس رافيل و(الصعود) لأوليفييه ميسيان وغيرها من الأعمال الاستشراقية الفرنسية. ساهمت باليه دياجيليف الروسية ومنذ عام 1909 في تكريس الموضة الاستشراقية في باريس أوائل القرن العشرين. حيث لاقت عروضها (لشهر زاد) ريمسكي كورساكوف وطائر النار لسترافينسكي نجاحا باهرا. في الأوبرا الراقصة بادمافاتي لروسيل المكتوبة بين عامي 1914 ـ 1918 استخدمت دراما وموسيقى ورقصات من الهند القديمة. وفي عام 1924 مالبث بوتشيني ان قدم عمله الاستشراقي الخاص ممثلا بأوبرا تورنادو Turnadot. شكلت هذه الاعمال بداية لاتجاه استشراقي في القرن العشرين. لكن الاعمال المذكورة حتى الآن لم تكن مبنية على دراسة دقيقة ورؤية معمقة للموسيقى الشرقية انما اكتفت بنقل اجوائها وبعض سلالمها وايقاعاتها. وفي الثلاثينيات نشطت الدراسات الاثنو ـ موسيقية التي تبحث في موسيقى الشعوب واصبحت تسجيلات وتقارير عن هذه الموسيقات متوفرة في الغرب. كان من اوائل الباحثين في هذا المجال المؤلف الأمريكي كولن مكفي (1901 ـ 1964) الذي درس الموسيقى الاندونيسية عن كثب خلال اقامته الطويلة في جزيرة بالي. استخدم مكفي الايقاعات والاصوات المعدنية التي وجدها في موسيقى الجاميلان الاندونيسية في مؤلفاته الخاصة. وما لبث جون كيج (1912 ـ 1992) ان استفاد من هذه الدراسات فصار يبني مؤلفاته على التركيب الايقاعي كعنصر اساسي في قالب العمل بدل الهارموني. وجد كيج ان الايقاع عنصر قوي لبناء التركيب الموسيقي وان المدة الزمنية للعلامة الغربية تضع الايقاع في رأس اولوياتها باستثناء (تلك التي شوهها التأثير الغربي) . لم يتوقف كيج عند استعارة العناصر الموسيقية من الموسيقى الشرق آسيوية بل راح في سوناتاته للبيانو يعبر بالموسيقى عن (العواطف الابدية) في التقاليد الهندية وهي: البطولة والشهوانية والحيرة والحزن والخوف والغضب وما يجمعها من ميل نحو الهدوء والسكينة. ثم بدأ بدراسة فلسفة الزن واستخدام مبادىء (كتاب التغيرات) آي ـ تشينج) في تأليفه لأعمال مثل (موسيقى التغيرات) التي تعتمد على العفوية والصدفة في اتخاذ القرارات الابداعية) لتترك مجالا للأصوات لان تكون على ما هى عليه ضمن اطار محدد.) وهذا تأثر واضح بفلسفة الزن البوذية التي تستبدل التحقيق الفردي, الذي كان هدف الابداع الفني الأساسي منذ عصر النهضة, تستبدله باللا ـ غائية التي تتمحور حولها فلسفة الزن البوذية. لم يكن كيج ومكفي المؤلفين الأمريكيين الوحيدين اللذين تأثرا بالموسيقى الشرقية. فهناك أيضاً بارتش الذي استفاد من المزج الشرقي بين الخلق الموسيقي والدرامي وكاول الذي استخدم آلات ومبادىء موسيقية من حضارات شرقية متفاوتة كإيران واليابان والهند وغيرهما من المؤلفين الأقل شهرة. ويستبعد ان يكون تبني المؤلفين الأمريكيين بصورة خاصة للاتجاهات الموسيقية الاستشراقية وليد الصدفة. فقد كان الاستشراق نهج الموسيقات التي وجدت نفسها مع بداية القرن العشرين دون تراث وهوية موسيقية متينتين كالموسيقى الأمريكية والموسيقى الفرنسية.
يذكر كيج موسيقيا هولنديا كان قال له مرة في امستردام: (لابد أنه من الصعب عليكم في أمريكا ان تكتبوا موسيقى لانكم جد بعيدون عن مراكز التراث) فأجابه كيج: (لابد انه من الصعب عليكم في أوروبا ان تكتبوا موسيقى لانكم جد قريبون من مراكز التراث) وقد لا يكون الموضوع متعلقا بالقرب أو البعد عن مراكز التراث الموسيقي بقدر ما هو متعلق بوجود لغة قومية واضحة يبني عليها المؤلفون لكناتهم الخاصة.
ففرنسا رغم قربها من مركز الأحداث الموسيقية منذ عصر النهضة, لم تنجب لسنين طويلة مؤلفين حظوا بشهرة كبيرة باستثناء كوبران ورامو ولولي (إيطالي المولد) وذلك في فترة امتدت من أواخر القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر. ولو أن لهؤلاء المؤلفين وغيرهم من الفرنسيين فضلا كبيرا في التنظير الموسيقي غير أنهم لم يتمكنوا من تحقيق هوية موسيقية كلاسيكية فرنسية مميزة ولم يتركوا بصمات توازي تلك التي تركها أندادهم الألمان والإيطاليون في تاريخ الموسيقى. في نهاية القرن التاسع عشر بدأ تتابع عدد من المؤلفين الفرنسيين الكبار كان بيرليوز سيزار فرانك الذي كانت موسيقاه متأثرة بباخ وفاجنر وبيتهوفن الالمان ولم يكن الا بظهور ديبوسي على الساحة الموسيقية الباريسية حتى بدأ السعي نحو لغة موسيقية قومية فرنسية مستقلة كانت المدرسة الانطباعية اهم أركانها. رأينا كيف كان ديبوسي قد فتح الطريق امام الإستشراق الفرنسي في افتتاحية (بعد ظهيرة ظبية) وكيف تابع رافيل مسيرته في (شهرزاد) . لكن أهم المستشرقين الفرنسيين وأكثرهم استمرارية في سعيه لدراسة الشرق الموسيقي والاستقاء منه هو اوليفييه ميسيان. لم يكن دافع ميسيان في تنقيب الشرق القديم دافعا دينيا فلسفيا مثل كيج. فقد كان ميسيان مخلصا لايمانه الكاثوليكي المسيحي. لكنه كان دائما يبحث عن بديل جديد لما آلت اليه الموسيقى الغربية الحديثة من ميل إلى التهكم في مدرسة الكلاسيكية الجديدة, ومن إسقاط لعناصر الموسيقى في اكثر المدارس الاخرى. لذا رأى ميسيان في الأنماط والمقامات بديلا مقنعا وبريئا, يناسب ميله الديني ورغبته في ايجاد موسيقى جديدة تحتفي بالحب والطبيعة واللغز الالهي. ورغم استخدام ميسان لمقامات عربية وايقاعات هندية من العصور الوسطى ومقاييس الشعر الاغريقي ومجموعات آلية اندونيسية, فقد كانت موسيقاه في النهاية خاصة به ولم تكن تشبه الموسيقى العربية او الهندية او الاغريقية او الاندونيسية. بل كان اسلوبه غربيا خاصا به, ويسهل تمييزه على انه كذلك. يعزى وضوح اسلوب ميسيان في الغالب الى استخدامه للانماط والمقامات التي كان طورها عن موسيقى غربية كموسيقى ديبوسي وليست والقوميين الروس. فكان استخدامه للعناصر الشرقية مصاغا في قوالب غربية واضحة. لم يتابع اي من طلاب ميسيان مسيرته الموسيقية نفسها. لكن تلاميذه الاكثر شهرة: بيير بوليز وكارلهايتر ستوكهاوزن حرصوا على اهم درس قدمه لهم. وهو انه لا حدود في الفن وانه يمكن استخدامه اي شيء في عملية التأليف, خاصة موسيقى الشعوب الاخرى. او بكلمات ميسيان: (كل شيء يمكن ان يحول الى موسيقى) . تبدو آثار هذا الدرس واضحة عند بوليز بصورة خاصة في (المطرقة دون صاحب) . وهو عمل غنائي لصوت نسائي من طبقة كونترالتو ومجموعة آلية صغيرة شبيهة بمجموعات الغاميلان الاندونيسية توحي ايقاعاتها بتأثير موسيقى افريقية السوداء, وفي (ارتجالات حول مالارميه) التي يستخدم فيها تأثيرات موسيقى هنود البيرو. يقول بوليز حول تجواله وترحاله كمدير لفرقة مسرح جان لوي باروه: (ان الاكتشافات التي كونتها كانت هامة لي كمؤلف فقد سمحت لي بأن احرر نفسي من التقاليد الاوروبية في استخدام الآلات الموسيقية) . رغم ذلك فإن استخدام بوليز لأية تأثيرات موسيقية شرقية كان دائما مموها مستترا. اما ستوكهاوزن فقد كان استشراقه مباشرا وواضحا. بدأ ستوكهاوزن منذ عمله في طوكيو في الستينيات بالبحث عن (الياباني في داخله) حسب تعبيره. وكتب أعمالا مثل تيليموزيك telemuzik يقول انها ليست موسيقاه الخاصة انما موسيقى العالم اجمع. (موسيقى كل البلاد والأعراق) . لكن الحقيقة ان تيليموزيك لم تكن موسيقى جميع الأعراق. فالموسيقات التي جمعها في عمله ذاك كانت تمثل اعراقا شرقية بصورة أساسية اذ يستخدم تسجيلات لموسيقى أصلية من أسبانيا وفيتنام وبالي وجنوب الصحاري واليابان وهنجاريا, ويحورها الكترونيا بحيث تتفاعل مع بعضها لتصبح اشبه ببث متزامن لمحطات إذاعية من كل هذه البلدان. كان دافع ستوكهاوزن لاستخدام الموسيقى الشرقية يشبه دافع كيج من قبله, فقد بحث في الفلسفات والاديان الشرقية, خاصة الهندية, عن راحة نفسه ورأى في الموسيقى وسيلة لجعل المقدس عاملا فعالا في الحياة الانسانية. اصبحت الموسيقى والفلسفة الشرقية في الستينيات شديدة الانتشار في الغرب ابتداء من استخدام السيتار في موسيقى الروك الى (مانترا) ستوكهاوزن التي كان غرضه منها ادخال الروحية في حياة الناس اليومية. تبع عدد من المؤلفين الأمريكيين مثال مكفي, فتعلموا التراث الموسيقي من الحضارات الشرقية وراحوا يستخدمونها في مؤلفاتهم. من هؤلاء ستيف رايخ الذي قال: (ان الموسيقى غير الغربية.. ستخدم كنماذج بنيوية جديدة للموسيقيين الغربيين لكن ليس كنماذج صوتية جديدة فقط (فتلك الرحلة الايكزوتيكية البالية). اولئك الذين يحبون تلك الاصوات كما هي, يمكنهم ان يتعلموا كيف يعزفون تلك الموسيقات على أصولها. هكذا نجد ان الإستشراق الموسيقي بدأ في أمريكا وفرنسا كمصدر إيحاء لا ـ غربي يستعيض به الموسيقيون عن التراث الغربي الألماني ـ النمساوي والإيطالي الذي تمردوا عليه. لكنه تطور فيما بعد ليشمل موسيقيين من المدارس تلك نفسها. رأى هؤلاء الموسيقيون في الموسيقى الشرقية بديلا جديدا عن تراثهم الوطني العريق او وسيلة للمزج بين ذاك التراث وعناصر شرقية جديدة تزيده تنوعا وغنى .

منقول ولا اعرف اسم الكاتب .

رأيك يهمنا