في بدايات القرن العشرين شن حكم كمال أتاتورك حملة لا هوادة فيها ضد كل ما هو عثماني … وكان من نصيب الفنون العثمانية جانبا مهما من هذه الحرب
مما دفع بالكثير من الموسيقيين الشرقيين العباقرة إلى الهجرة خوفا من البطش أو لعدم وجود ما يشتغلون به … و خاصة أن موجة الأوربة ( إن جاز التعبير ) بلغت أقصاها.
هرب حينها الموسيقي البارع محي الدين حيدر إلى بغداد ..
وهناك كان له الفضل بتأسيس مدرسة للعود كان من أبرز خريجيها الأخوين بشير وغيرهم .
محي الدين شريف من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأبوه علي حيدر باشا آخر أمراء مكة .
ولد في اسطنبول عام 1892 في قصر كبير مثقف حافل بكل الثقافات ( تركية عثمانية – عربية إسلامية – فرنسية أوروبية ) .
بدأ بتعلم آلة البيانو في عمر مبكر جدا ففي الرابعة كما تمليه تقاليد الأسر العريقة . ونبغ الطفل وأدهش أساتذته . فكان أن بدئوا بتعليمه آلة العود في سن السابعة وفي الرابعة عشر بدأ يدهش الجميع بمتانة وقوة وغزارة علمه الموسيقي .فبدأ بتعلم آلة جديدة هي التشيلو ( الكمان الجهير ) .
أتقن الشاب العزف على الآلات الثلاث اتقانا معجزا بحيث نجح بتأليف مقطوعات وعدة دراسات موسيقية هامة ورافق نجاحه ذاك نجاحا آخرا في دراسته فتخرج من كلية الحقوق والآداب .
اندلعت الحرب العالمية الأولى فتوقفت الحياة الفنية ودفع هذا الوضع محي الدين إلى مغادرة اسطنبول إلى مكة ومن ثم إلى حلب .
أتى مصطفى كمال أتاتورك … وحارب كل ما هو عثماني ومجد عنصر الترك ….فأصبح العربي محي الدين فجأة بلا وطن ….وجد نفسه في أمريكا على صلة بموسيقيين من أمثال غودوفسكي وكرايزلر وأوير وإلمان وعازف الكمان الأسطوري هايفتز . ونصحه هؤلاء بتقديم حفلاته الخاصة وهكذا كان …. تقول الصحيفة النيويوركية الهيرالد ترايبيون أن محي الدين أحدث في آلة العود ثورة تشبه ثورة باغانيني على الكمان .
( قيل هذا الأمر على شيطان البزق محمد عبد الكريم رحمه الله ) .
في عام 1928 قدم حفلة في أمريكا عزف فيها موسيقاه الخاصة على آلة العود و التشيلو .
الغريب بالأمر أن المستشرقين المهتمين بالموسيقا من امثال ديرلانجيه وفارمر وغيرهم … قد أهملا ذكره على الرغم من سعة إطلاعهما ومعرفتهما الكبيرة في الموسيقا العربية . بل ذكره كبار دارسي الموسيقى الغربيين كموسيقي عظيم .
دعي إلى العراق عام 1933 وعهد إليه تطوير الموسيقا في العراق ….والذي دعاه هو ملك البلاد الملك فيصل ( ابن عمه ) .
كانت الموسيقا في العراق آنذاك تعيش في أطرها الشعبية الكلاسيكية …. ( فن المقام ) . وكان المقام كعلم قد لفت الأنظار إليه على يد محمد القبنجي ولكنه كان فوضويا غير محكوم بقواعد مكتوبة أو حتى مدروسة دراسة جدية .
بعد أشهر من الدراسة والتفكير سافر الشريف إلى رومانيا حيث اتفق مع عازفين كبار من امثال ساندو آلبو مدرس الكمان الشهير وجوليان هيرتز عازف البيانو الشهير ، لتدريس الموسيقا الغربية فافتتح المعهد بقسميه الغربي والشرقي .
تكفل هو بتدريس آلة العود و الجميل بالأمر أنه لأول مرة وبفضله كانت آلة العود تدرس بشكل متصاعد الصعوبة وحسب منهاج محدد وتمارين متدرجة الصعوبة ( بتمرينات وضعها هو بنفسه ) .
وهي نفس طريقة تدريس الموسيقا الكلاسيكية الغربية … وقد أثبتت هذه الطريقة نجاعتها وذلك مما أنتجته من عازفين يعدون الأقوى شرقيا .
كان من طلبة محي الدين عام 1939 فتاة تتلمذت عليه سرا فكانت تأتي إليه مغطاة محتجبة لتكون في نجوى عن العيون حيث كان خادمها يجلب العود قبلها بنصف ساعة …. وأصبح للفتاة شأنا في الشعر العربي إنها نازك الملائكة .
من طلابه أيضا كان أكبر عازفي هذا الزمان الفنانين جميل بشير ومنير بشير ، سلمان شكر ، غانم حداد ، جورج ميشيل ، روحي قماش .
توفي رحمه الله عام 1964 .
رحم الله أستاذ الجميع …محي الدين حيدر كان من أكبر الموسييقين العرب وأعلمهم على الإطلاق .
عرفت الشريف محي الدين حيدر، من صغري. إلتحق في العام 1947 بعمله مديراًفي المعهد الموسيقي العراقي المؤسس في العام 1936 بإدارة الموسيقار العراقي حنا بطرس في بغداد. وعمل أستاذاً للعود الشرقي والجلو الغربي. كنت آخر طالب بدأ بدراسة الجلو على يديه في العام 1947، قبل مغادرته نهائياً للعراق في العام التالي، عائداً إلى تركيا لأسباب صحية.
كان فناناً كبيراً، مؤلفاً للأعمال الموسيقية، وأستاذاً تخرج على يديه عدد من أمهر عازفي العود بالتقنيات العالية، التي أصبحت منهجاً تعليمياً متقدماً.
أود التنويه بأن جورج ميشيل (مصر) وروحي الخماش (فلسطين) لم يدرسا في العراق، وهما ليسا من تلاميذ محي الدين حيدر.
باسم حنا بطرس (نيوزيلندا في 23 شباط 2008.