اسحاق الموصلي – الموسيقار النديم

لولا ما سبق على ألسنة الناس وما اشتهر من امر اسحاق لوليته القضاء بحضرتي
(الخليفة المأمون)

لم تحفل حياة “فنان” معاصر او مغن قديم بمثل ما حفلت به حياة المغنى اسحاق الموصلى (767 ــ 850 م)،
وما سمعت او قرأت ان مغنياً ألمَّ باسباب العلوم والادب والحديث مثله، فقد عاش الرجل حياة استغل كل يوم من عمره بتعلم شيء ما من مختلف علوم وآداب زمانه، وكانت سنيّ عمره عبارة عن رحلة مستمرة من التعلم والاستزادة، حتى قيل فيه لسعة مداركه وكثرة معرفته “الغناء اصغر علومه وأدنى ما يوسم به”..
ولد إسحاق الموصلى فى الري، وهى تقع الى الجنوب الشرقى من طهران، عام 767 م من ابراهيم الموصلي، المغنى الشهير، ومن شاهك الفارسية، ثم رحلت الأسرة بعد ذلك الى بغداد، حيث حظى ابوه برعاية وتكريم خلفاء بنى العباس، فنشأ فى بيئة فنية، وألمّ منذ صغره بحرفة الغناء تحت اشراف أبيه الذى كان يطمح فى جعله خليفة له دون منافس، فكان له ما اراد، وبلغ اسمى منزلة منذ عهد الرشيد وحتى المتوكل.. 

كان اسحاق الموصلى ذا أذن موسيقية سليمة وذوق صافف، رقيق الحاشية، حلو الشمائل، لطيف الحديث، غرف من بيت ابيه جواهر الالحان، ومن مجلس الخلافة دفرر العلوم والمعرفة.. لقد كان ــ بغض النظر عن شهرته كمغن بارع ــ عالما فقيها، وشاعرا مجيدا واديبا أريبا، ونديما جمّ الظرف، وجليساً لطيف المعاشرة.. قال محمد بن عطية الشاعر: “كنت عند يحيى بن اكثم، قاضى القضاة، فى مجلس له يجتمع اليه اهل العلم، وحضر إسحاق الموصلي، فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم فى الفقه فأحسن واحتج، ثم تكلم فى الشعر واللغة ففاق من حضر، فاقبل على يحيى بن أكثم قائلاً: أعزّ الله القاضي، أفى شيء مما ناظرت تقصير؟ قال: لا والله.. قال: فما بالى اقوم بسائر العلوم وأنسب الى فنّ واحد قد اقتصر الناس عليه؟”.

فمنذ يفاعته، أخذه ابوه الى مجلس الرشيد، حيث جلس فحول الغناء العربى فى صفين متقابلين: مخارق، ويحيى المكيّ، وابن جامع، وابن ابى العوراء، وغيرهم، حيث تقام أمام الرشيد مناظرة فى الغناء، فلما جاء دوره وغنى طرب له الرشيد، فاستزاده، فزاد، فطلب لحناً آخر منه، فاجابه لذلك وابدع، فقال الرشيد وقد استبدّ به الطرب: “والله، ما الغناء الذى يفلين العريكة، ويفسح فى الرأى والصدر، ويحدث فى النفس الطرب، الا غناء هذا الرجل”.
ومن الامور الاخرى التى اشتهر بها اسحاق الموصلي، حرصه على حفظ وجمع الحديث النبوى الشريف.. وقد جاء فى كتاب الامالى لأبى على القالى ما رواه عن أبى الحسن، قال سمعت ميمون بن هارون يقول: “قال حميد الطوسي، كنت حاضرا دهليز المأمون فدعا الناس لقبض أرزاقهم، فكان أول من دخل إسحاق الموصلى مع الوزراء، ثم نودى على القادة، فكان اسحاق اول من دخل معهم، ثم دعا بالفقهاء والمحدثين، فكان هو اول من دخل، ثم نودى على المغنين، فكان هو أولهم، ثم دعى بالرماة فى الهدف، فكان هو أول الداخلين، فعجبت من كثرة علومه وفنونه”..
وإسحاق الموصلى شاعر ايضا، بل وشاعر مجيد وهو، للغرابة، لم يكن ممن يسعون فى شعرهم لنيل الجوائز والخلع السنية، بل كان يكرم ويهب الشعراء .. مرّ ابن الاعرابى الشاعر يوما على باب دار اسحاق مع صديق له، فقال له الصديق: “هذه دار صديقك أبى محمد إسحاق”، فقال ابن الاعرابي: “هذه دار الذى نأخذ من ماله ومن أدبه” وكان إسحاق يجرى عليه راتباً سنوياً قدره ثلثمئة دينار..

ومن طريف شعره ان ابا زياد الكلابى كان قد دعاه جار له لوليمة، فلما انقضى اليوم ولم يأته رسوله، قال فيه: “وان أبا سفيان ليس بمولمف/فقومى فهاتى فلقة من حوارك”. فقال له اسحاق: “أليس غير هذا؟” فقال: “لا، انما أرسلت هذا البيت يتيماً (أى لم أرسل له غير هذا البيت)” فقال اسحاق: “أفلا أجيزه؟” فقال له “شأنك” فقال إسحاق: “فبيتك خير من بيوت كثيرةف/ وقدْرك خير من وليمة جارك”.

وبعث له يوماً احمد بن هشام بزعفران رطب، وكتب اليه معه: “اشرب على الزعفران الرطبف متكئاً وانعم، نعمت بطول اللهو والطرب”. فكتب اليه اسحاق: “اذكر أبا جعفر حقاً أمتّف به/إنى وإياك مشغوفان بالأدب/وأننا قد رضعنا الكـأس درّتها/والكأس حرمتها اولى من النسب”. وقال فى رثاء الفضل بن يحيي: “فراقك مثل فراق الحيــاة/وفقدك مثـل افتقاد الديم/عليك السلام فكم من وفاء/افارق فيك وكم من كرم”.

ولعل من الدوافع المهمة فى نبوغ اسحاق الموصلى ان جعل الله له صنواً من بيت الخلافة، الا وهو ابراهيم بن المهدي، فقد ذكر الرواة انهما افنيا عمريهما فى التنازع حول “تجزئة لحن” او “قسمة صوت واحد” ناهيك عن امور فنية كثيرة اخري.. ورغم ان كلا الرجلين لم يكن ينكر فضل الاخر، فإن المنافسة بينهما كانت تصل الى درجة كبيرة، فيتنكرّ هذا لصاحبه، ويزعل الاخر، وقد روى المؤرخون ان اسحاق كان يتشامخ احيانا على ابراهيم فى صنعة الغناء، فما يكون من ابراهيم الا ان يبادله التعالي، فينكر عليه زعامته..

ومهما كان من أمر هذين الرجلين الرائعين، فانهما كانا قطبى الموسيقى فى عصرهما، وكان مما أشار اليه الرواة انهما كانا يتقنان تدوين الالحان، أو ما يمكن ان نسميه اليوم بـ “تدوين النوطة”. وعلى الارجح ــ حسب شهادة الرواة ــ انهما كانا يستخدمان رموزاً خاصة بينهما لتدوين اللحن، وهو امر دون شك يدل على التطور الكبير الذى بلغته الموسيقى فى ذلك العصر، بالقياس الى تدوين النوطة فى الغرب، الذى عرف بعد زمن طويل جدا من ذلك..
وكانت لإبراهيم المهدى كتب ألفها فى الطب، والطبخ ، وكتاب اسماه “أدب إبراهيم”، ناهيك عن قدرته ــ بحسب الرواة ــ على اداء اغلظ النغمات من ناحية الثقل وأشدها ارتفاعا من ناحية الحدة، وبلغ اتساع المنطقة الصوتية لمقدرته فى الاداء ثلاث مراتب (أوكتاف)..

لقد تجاوز اسحاق الموصلى كونه مغنياً او نديماً، بل كان يلقب ايضا بـ “الأنيس”، و”الجليس”.. قال عنه محمد بن عمران الجرجانى يصفه: “كان إسحاق والله غرّة زمانه، ووحيد عصره علماً وفهماً وأدباً ووقاراً وجودة رأي، وصحة مودّة.. وكان والله يخرس الناطق اذا نطق، ويحير السامع اذا تحدث، لا يمل جليسه مجلسه، ولا تمجّ الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته.. ان حدثك ألهاك، وان غناك أطربك، وما كانت خصلة من الادب، او جنس من العلم يتكلم فيها اسحاق، فيتقدم احد على مساجلته او مناوأته فيه”.

 

رأيان على “اسحاق الموصلي – الموسيقار النديم

  1. تحية تقدير لصاحب الموقع الذي أعجبني كثيراً, لكن
    لي ملاحظة واحدة تخص قسم أشهر المطربين ألا وهو العملاق وديع الصافي بالرغم أنك وصفتّه كأفضل وأشهر مطرب في لائحتك حين وصفت المطربة سعاد محمد أن صوتها كامل لا عيب فيه إذ كل المطربين والمطربات في عصرها ( عدا وديع الصافي ) لا تستطيع إلاّ أن تجد فيه عيباً ما, وقد أصبت بخيبة أمل عندما لم أجده ضمن لائحتك . أستاذي الكريم
    أهمس في أذنك أنني لا أفقه بعلم الموسيقى أكثر
    من 1% لكن أذني لا تسمع إلاّ المطربين :
    وديع الصافي – فيروز – يوسف المنيلاوي – أبو العلا محمد – محمود صبح – سيد دروش – صالح عبد الحي -وبالرغم من عشقي إلى أم كلثوم التي أسمع أغانيها
    القديمة معظم الوقت فإني أطرب لأغانيها الملحنة
    من زكريا أحمد وبصوته الأجش لا أعرف لذلك سبباً –
    ومن الطرب العراقي محمد القبانجي – يوسف عمر –
    وناظم الغزالي. وقبل أن أختم أخبرك أنني سمعت
    الأستاذ منصور الرحباني في مقابلة تلفزيونية حين
    تحدث عن صوت وديع الصافي وبالحرف الواحد قال:
    قلّما يأتي كل ( 400 ) سنة تقريباً صوت كامل كصوت وديع الصافي في الكون الفسيح وليس عند العرب .
    لك كل التحية والسلام

رأيك يهمنا